2- تفويض المعنى: وعليه طائفة من الخلف.
فإنّهم حين اصطدموا بالإشكالات الكثيرة من جرّاء التّأويل، لجئوا إلى تفويض المعاني، ولخّص مذهبَهم صاحبُ " الجوهرة " بقوله:
( وكلّ نصّ أوهم التّشبيها *** أوّله، أو فَوِّض ورُم تنزيها )
بل إنّهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فقالوا:" الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أصول الكفر "!
[حاشية الصّاوي على " تفسير الجلالين " (3/10)].
وجعلوا نصوص الصّفات من المتشابه ! ونصروا الوقف على قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} [آل عمران: من 7].
وبيان انحراف هذا المنهج باختصار من وجوه:
1- ادّعاؤهم أنّ ( النّصوص توهِم التّشبيه )، وهذا فيه سوء أدب مع النّصوص الشّرعيّة، فهي – ولله الحمد – خالية من الإيهام، وقد سمّى الله تعالى كلامه الفرقان، والهدى، والنّور، والبيان، والبرهان، والشّفاء، وغير ذلك من ألقاب الكمال وصفات الجلال.
وإنّما يسري الوهم على القلوب لضعف في الفهم والتصوّر، والتأثّر بقواعد أهل الكلام.
2- إنّ الله أمرنا بتدبّر كتابه، وفهم كلامه وخطابه، فقال:{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ؟!
ففرق واسع، وبون شاسع بين من يقول: إنّ لله تعالى يدا لا نعلم كيفيّتها، ومن يقول: إنّ لله يدا لا نعلم معناها !
فالأوّل نطق بما نطق به الكتاب والسنّة، وجعل لألفاظ الكتاب والسنّة معنى تدلّ عليه.
والثّاني يُعلِن أنّ في النّصوص ما لا يُفهم معناه، ولا يُفقه مغزاه !
3- جعل آيات الصّفات من المتشابه من الخطأ السّائر:
فلا بدّ أن نعلم أنّ التّشابه نوعان:
أ) تشابه حقيقيّ: وهو ما لا يعلمه إلاّ الله وحده، وهو كيفية الأمور الغيبيّة، نحو: كيفية صفاته سبحانه، وكيفية الحياة البرزخيّة والأُخرويّة، وغير ذلك.
وحكم هذا النّوع: أنّه يجب التّسليم به دون تكييف أو تشبيه. وعليه يُحمل الوقف في قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ}.
ب) تشابه نسبيّ: فذلك أن يكون متشابها على بعض دون بعض، أمّا النصّ في ذاته، وعند أهل الفِطر الصّحيحة والعقول الصّريحة فمحكمٌ لا تشابه فيه.
وحكم هذا النّوع من التّشابه أنّه لا يجوز اتّباعه، بل يجب ردّه إلى المحكم بتفسيره وبيان معناه، وعليه يُحمل الوصل في قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ}، قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" أنا ممّن يعلم تأويله " [" تفسير الطّبريّ " (6/203)].
فالحاصل: أنّه ليس في النّصوص تشابه حقيقيّ، لما سبق بيانه: أنّ كلام الله عزّ وجلّ غاية البيان.
وإنّما التّشابه نسبيّ إضافيّ، أي: باعتبار الخلفيّات والتصوّرات السّابقة للسّامع.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى:{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ}: فهي آية محكمة لا اشتباه فيها لدى المسلمين قاطبةً. أمّا النّصارى فقد ادّعوا أنّها تشير إلى التّثليث !
أفيُعقل أن يقال: إنّ كلمة ( نحن ) لفظ لا يُدرى معناه ! من أجل اشتباهه على النّصارى ؟!
أم أنّه يوضّح المعنى الصّحيح لكلمة ( نحن ) في كلام الله عزّ وجل ولغة العرب.
فكذلك آيات الصّفات، ليس فيها لَبْسٌ على من استقامت فطرته، وقوِيت شرعته، وإنّما اللّبس على من رضع من لبن علم الكلام، ولم يسلم منه بفطام.
4- أمّا اختيارهم الوقف على قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} فمردود، لثبوت القراءتين معاً كما سبق بيانه.
[انظر:" المكتفى في الوقف والابتدا " (ص 194) لأبي عمرو الدّاني، و" منار الهدى في بيان الوقف والابتدا " (ص 70) للأشموني].
فمن اختار الوقف على لفظ الجلالة، كان معنى المتشابه: هو كيفية وحقيقة الأمور الغيبيّة.
ومن وصل لفظ الجلالة بالرّاسخين في العلم، كان معنى المتشابه حينئذ: هو معاني الأمور الغيبيّة.
5- معنى قول السّلف: ( أمرّوها كما جاءت ):
فإنّ معنى هذه العبارة: إثبات الصّفات على الحقيقة دون تكييف، وكان قصد السّلف من قولهم هذا هو الرّد على النّفاة والمعطّلة.
ويظهر لك ذلك جليّا من وجوه:
أ) إنّ نصوص الصّفات جاءت ألفاظا دالّة على معانٍ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمرّوا لفظها والمفهوم غير مراد !
ب) ثمّ لماذا قالوا: بلا كيف ؟ فإنّ نفي الكيف عن شيء لا معنى له لغو من القول؛ فإنّه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللّفظ معنى، وإنّما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. [انظر: " الفتوى الحموية " من " مجموع الفتاوى (5/41-42)].
ت) أنّ الإمام أحمد رحمه الله قد قال هذه المقولة في غير أحاديث الصّفات، كنصوص الوعد والوعيد، والفضائل وغير ذلك:
فقال الإمام أحمد رحمه الله عن الحرورية حين سئل عنهم هل يكفرون أو يرى قتالهم ؟ قال:"اعفني من هذا، وقل كما جاء فيهم في الحديث". [" مسائل الإمام أحمد " لابن هانئ (2/158)، رقم (1884)].
وقال رحمه الله حين سئل عن قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِناَّ )) ما وجهه ؟ قال:" لا أدري إلاّ على ما رُوِي ".
[" السنّة " للخلاّل - رقم (999)].
وقال لمّا سئل عن أحاديث في فضائل عليّ رضي الله عنه:" على ما جاءت، لا نقول في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاّ خيرا ".
[" مسائل ابن هانئ (2/169)–رقم (193)].
فهذا يدلّ على أنّ السّلف كانوا يتعاملون مع النّصوص على حدّ سواء، لا يفرّقون بين نصوص الصّفات وغيرها
ث) قول الإمام ربيعة ومالك وغيرهما في الاستواء: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب "، يردّ على مذهب أهل التّفويض؛ لأنّهم قالوا:" الاستواء غير مجهول " أي: معناه معلوم لدينا، وإنّما الكيف هو الّذي لا يُعقل فلا يسأل عنه.
فلم ينفوا رحمهم الله إلاّ العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه.
الخاتمة - نسأل الله حسنها -:
قال الإمام السّفاريني في " لوامع الأنوار البهيّة " في معرض رده على من زعم أنّ طريقة السّلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم:
" وهؤلاء إنّما أوتُوا من حيث ظنّوا أنّ طريقة السّلف هي مجرّد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك، بمنزلة الأميّين، أو أنّ طريقة الخلف هي استخراج معاني النّصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللّغات.
فهذا الظنّ الفاسد أوجب تلك المقالة الّتي مضمونها: نبذ الإسلام وراء الظّهر ! وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السّلف، وضلّوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السّلف في الكذب عليهم، والجهل والضّلال بتصويب طريقة غيرهم "اهـ
وما أحسن قول أحد العلماء:" إنّما أعطِينا العقل لإقامة العبوديّة، لا لإدراك الرّبوبيّة، فمن شغل ما أُعطِي لإقامة العبوديّة بإدراك الرّبوبيّة، فاتته العبوديّة، ولم يدرك الرّبوبيّة " [" الحجّة في بيان المحجّة " (ص 33) لقوّام السنة الأصبهاني].
والله أعلم وأعزّ وأكرم.