عرفت الشرّ لا للشّر ولكـن لتـوقّيه *** ومن لم يعرف الشرّ من الخير يقع فيـه
وقد رأينا من خلال كلامنا عن أصول التّربية وطَرْقِها كثيرا من الأخطاء، كالانشغال عنهم، وعدم القرب منهم، والقسوة في معاملتهم، والغفلة عن الدّعاء لهم، والقدوة السّيّئة، وغير ذلك، واليوم إليكم جملةً من الأخطاء لعلّ الله يوفّقنا إلى اجتنابها.
1- الاستقالة من مهمّة الوالدين إذا كبر الأولاد:
ربّما كان الوالدان قد وجّها الابن في الصّغر توجيها حسنا، وأنبتاه نباتا حسنا، حتّى إذا كبِر تركا مراقبته، وتوجيهه ومناصحته، فيردّد الوالد كلمة يجعلها دثاره وشعاره: أدّيت الّذي عليّ !.. آن له أن يتحمّل مسؤوليّته !.. إنّه كبير ويدرك مصلحته !.. وغير ذلك من الكلمات ..
وهذا خطأ واضح وعيب فاضح، فإنّ حضور الوالدين في حياة الأولاد وفلذات الأكباد لا ينقطع، وكلّ مرحلة جديدة من مراحل حياة الإنسان تعتبر أكبر منه، فلا تبخل عليه بنصائحك وتوجيهاتك، وأسبغ عليه عطفك وتعليماتك.
نعم يختلف توجيه الشّابّ اليافع عن توجيه الصبيّ الغِرّ، وعلى الوالد أن يتحلّى حينها بسعة الصّدر وطول البال، فالشابّ لا يؤثّر فيه أكثر من الجلسة الجادّة والكلمة الطيّبة.
وإليك صورا مشرقة من أحوال الصّالحين، تبيّن لك حضور الوالدين في حياتهم، حتّى انتفعوا بهم بعد مماتهم.
- انظر إلى من أمرنا الله تعالى باتّخاذه قدوة وسبيلا، الّذي اتّخذه الله خليلا: إبراهيم عليه السّلام.
ففي صحيح البخاري عن ابن عبّاس رضي الله عنه وهو يقصّ علينا قصّة نبي الله إبراهيم وإسماعيل وهاجر، وكيف كان يتعاهدهما بالزّيارة من حين إلى آخر، على كبر سنّه، وبعد المسافة بين الشّام ومكّة، وصلاح ولده، وصلاح أمّه، لم يمنعه ذلك كلّه من تفقّد ولده .. بل حتّى بعد زواجه لم يقطع زيارة ولده إسماعيل ..
يقول ابن عبّاس رضي الله عنه:
وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ. فَشَكَتْ إِلَيْهِ.
قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا ؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ:غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ.
قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى.
فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ. وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ ؟ قَالَتْ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ ))، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ ! أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ.
قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ.
- ومن النّماذج: ما رواه ابن أبي شيبة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا بُنَيَّ ! إنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُقَرِّبُك وَيَسْتَشِيرُك مَعَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَيَخْلُو بِك، فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا:" اتَّقِ اللَّهَ لَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْك كِذْبَةً، وَلَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تُعَاتِبَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا "، قَالَ: فَقُلْت-الراوي عنه- لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ ! كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ، قَالَ رضي الله عنه: وَمِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
- وقالت أمّ معاوية بن أبي سفيان - ومعاوية وليد بين يديها-: " إن عاش ساد قومه "، ثمّ قالت:" ثكلتُه إن لم يَسُد قومه".
- وكانت أمّ الشّافعي خلفه رحمه الله، فقد وُلِد يتيماً، فكفلته، وعلّمته، وشجّعته، حتّى بلغ ما بلغ.
- وكانت أمّ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى تعينه على جميع أموره ويستضيء بآرائها، وهي أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وهناك نماذج كثيرة من ذلك.
- وقالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بُني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي. فكانت رحمها الله تعمل وتقدم له؛ ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوّله بالموعظة والنصيحة؛ قالت له ذات مرة - فيما يرويه الإمام أحمد- : "يا بني إن كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك ".
ولا سيّما النّساء، فإنّها في أمسّ الحاجة إلى وصايا الوالدين في كلّ مراحل حياتهنّ، خاصّة في أهمّ مراحل حياتهنّ.
- ذكر ابن الجوزي في " أحكام النّساء " بسنده أنّ أبا الأسود الدّؤلي زوّج ابنة لـه، فقالت: يا أبت إنّي لا أحبّ أن أفارقك، فأمّا إذ زوّجتني فأوصني. قال: إنّك لن تنالي ما عنده إلاّ باللّطف، واعلمي أنَّ أَطْيب الطّيب الماء.
وعن أبي عبيدة قال: زوَّج رجل من العرب أربع بنات لـه، فزار أولاهنّ فقال: كيف ترين بعلك يا بنيّة ؟ فقالت: السّهل بأرض محل، إن سألت أعطى، وإن سكت ابتدأ من غير مَنّ ولا أذى. فقال: أي بنيّة، رزقته بجدّك لا بكدّك.
ثمّ زار الثّانية، فقال: أي بعل بعلك ؟ فقالت: جبّار عنيد، من الخيرات بعيد، لا توقد لـه نار، ولا يؤمن لـه جار. فقال: أي بنيّة، صبَّتْ عليك بليَّة، فليكن الصبر منك سجيّة حتى تأتيك المنيّة.
ثمّ زار الثّالثة فقال: كيف زوجك ؟ فقالت: ذو خلق نزق-أي: خفيف طائش-، وشرّ غلق-مشكل-، يجود لي في الغنى، ويحرمني إذا افتقر. فقال: أي بنيّة، تذمّين وتحمدين، وكذا الدّهر بين حين وحين، يحمل الغثّ والثّمين.
ثمّ زار الرابعة فقال: أي بعل بعلك ؟ فقالت: ذو خلق جميل، ورأي أصيل، مقبل على أهلـه، متكرم في رحلـه. فقال: أي بنية، رزقتيه ماجداً، فامنحيه ودّك، وألطفيه جهدك.
- وهذا أسماء بن خارجة زوّج ابنته، فلما أراد أن يهديها إلى زوجها، أتاها فقال: يا بنية، إنّ النساء أحق بأدبك مني، ولا بد لي من تأديبك، كوني لزوجك أمة يكن لك عبداً، ولا تدني منه فيملّك، ولا تباعدي منه فتثقلي عليه، ويثقل عليك، وكوني كما قلت لأمّك:
خُـذي العفوَ منّي تَسْتديمي مودَّتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضبُ
فإنّي رأيتُ الحبَّ في القلبِ والأذى *** إذا اجتمعا، لم يلبث الحبّ يذهـبُ
- وعن عبد الملك بن عُمَيْر قال: لما زوّج عوف بن محلِّم الشيباني ابنته أم إياس بن الحارث بن عمرو الكندي، فجهزت، وحضرت لتحمل إليه، دخلت عليها أمها أمامة لتوصيها فقالت: يا بنية، إنَّ الوصية لو تركت لفضل في الأدب أو مكرمة في الحسب لتركت ذلك منك، ولزويتها عنك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، أي بنيّة، لو استغنت المرأة عن زوجها بغنى أبيها، وشدّة حاجتها إليه، لكنت أغنى الناس عنه، إلا أنهنّ خُلقن للرجال، كما لـهن خُلق الرجال.
أي بنيّة، إنك قد فارقت الجوّ الذي منه خرجت، والعش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، أصبح بملكه عليك مليكاً، فكوني لـه أمة يكن لك عبداً.
احفظي لـه خصالاً عشراً، تكن لك دركاً وذكراً.
أمّا الأولى والثانية: فالصحبة لـه بالقناعة، والمعاشرة لـه بحسن السمع والطاعة، فإنّ في القناعة راحة القلب، وفي حسن السمع والطاعة رضى الرب.
وأمّا الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع أنفه، والتعاهد لموضع عينه، فلا تقع عينه منك على شيء قبيح، ولا يشمّ أنفه منك إلا أطيب ريح، وإن الكحل أحسن الحسن الموجود، والماء أطيب المفقود.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لموضع طعامه، والتفقّد لـه حين منامه، فإنَّ حرارة الجوع ملـهبة، وإنّ تنغيص النوم مغضبة.
وأما السّابعة والثامنة: فالرّعاية لعيالـه، والاحتفاظ بمالـه، فإنَّ أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والرّعاية على العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي لـه سراً، ولا تعصي لـه في حال أمراً، فإنك إنْ أفشيت سره، لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره.
ثمّ اتّقي يا بنيّة الفرح لديه، إذا كان ترحاً، والاكتئاب إذا كان فرحاً، فإنَّ الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي يا بنية، أنك لن تصلي إلى ما تحبين منه حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، واللـه يخيِّر لك ويحفظك. فحملت إليه، فعظم موقفها منه، فولدت لـه الملوك الذي ملكوا بعده.
2- الدّعاء على الأولاد بالشرّ:
هذا ما جرت عليه عادة كثير من المسلمين، لا سيّما النّساء منهم ! يلهج لسانهم بالدّعاء على الأولاد بالسّوء، وكأنّ الله تعالى أوصاهم بذلك، مع أنّنا رأينا في خطب ثلاث فضل وأهمّية الدّعاء بالخير للأولاد بالهداية والثّبات والصّلاح، ولكنّ أكثر النّاس غافلون {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}..
وقد حرّم الله تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم الدّعاء على الأولاد بالشرّ، فقد روى مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ )).
وروى مسلم أيضا وأبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ! وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ ! وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ ! وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ ! لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبَ )).
والعجيب .. أنّ الواحد منّا يغفل عن هذا الإثم العظيم، فمرّة دعت امرأة على ولدها - وأنتم تعلمون كم تتقن نساؤنا فنّ الدّعاء على الأولاد - فإذا بالولد يعود إلى البيت مصابا في بدنه .. فلم تجد الوالدة شيئا سوى أن تعلّق الأمر بالعين ! ولم تعلّقه بالدّعاء الذي تدفّق منها كما يتدفّق الماء من العين.
قال تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}..
الخطبة الثّانية:
الحمد لله على إحسانه، وجزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، أمّا بعد:
فمن أخطاء الوالدين في تربية الأولاد:
3- تنشئة الأولاد على الخوف والجُبن..
إنّ الخوف ثلاثة أنواع: خوف محمود، وخوف مذموم، وخوف طبيعيّ..
- أمّا الخوف المحمود فهو ما يمنع صاحبه، ويحجبه عن محارم الله تعالى، وهذا ما يجب تربية الأولاد عليه، ودعوتهم إليه، لأنّ الله مدحه في كتابه الكريم، ورتّب عليه الأجر العظيم، قال تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}..وقال:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}..
- وأمّا الخوف المذموم فهو الخوف من المخلوقات خوفا يزيد على درجة الخوف من الله، أو يساويها، وذلك كأن يُخوِّفه من الظّلام أو من أصوات الكلاب أو من الجنّ والشياطين، ومن الأرواح، وهذا كلّه من مساوئ التّربية، لأنّه يؤدّي إلى انحراف خطير، وضلال كبير، وجهل بقدرة الله تعالى.
- أمّا الخوف الطّبيعي الفطريّ، فهو ما يحسّ به الأنسان من خوف بطبيعته، كخوفه من قتل العدوّ، ولدغ العقرب، ونحوها، فهذا خوف لا يسلم منه أحد، وهذا نبيّ الله موسى عليه السّلام مثال الشّجاعة والقوّة، ورسول من أولي العزم، يقول:{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}، وفي موضع آخر قال الله عنه:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}.
إذا فهمنا ذلك كلّه، فإنّ خوف الصّغير من الله يجب أن يزرع زرعا، ويغرس غرسا ..
والخوف من المخلوق فيما لا يقدر عليه يجب أن ينبش من قلبه نبشا.
ويجب على الوالدين أن يبتعدا كلّ البعد عن الأسباب المؤدّية إلى هذا النّوع من الخوف، كالّذي اعتاده كثير منّا من قذف الطّفل في الهواء ثمّ التقاطه مرّة أخرى، فإنّ هذا النّوع من اللّعب من الأمور التي تثير الخوف في نفس الطّفل.
وأمّا خوفه من الظّلام - الّذي يُعتبر أعظمَ مظاهر الخوف عند الطّفل- يجب على الوالدين أن يعوّدا الطّفل من الصّغر على النّوم في الظّلام، ولا بأس أن يعلّمه أنّ علماء الطّبيعة يقولون إنّ النّوم في الظّلام ضروريّ لراحة الجسم وأنفع له.
- أمّا موقف الوالدين من خوف الطّفل الطّبيعيّ، فلا بدّ للوالدين من مراعاة نفسيّة الطّفل، فما هو وهم لديك هو لديه حقيقة، ولا يمكن أن يُزال هذا الخوف إلاّ بالتعوّد، ولا يجوز للوالدين أن يقابلا خوف الطّفل الطّبيعيّ بالسّخرية، وعدم المبالاة، فإنّ ذلك يُفقد الطّفل الاطمئنان والاستقرار، بل على الوالدين أن يقابلا ذلك بالعطف والحنان، والرّأفة والاحتضان.
4- المبالغة في حسن الظن بالأولاد:
حيث لا يسمح لأحد أن ينتقدَ أولادَه ! أو ينصحه فيهم ! وكأنّ أولاده هم مثال الكمال.
وهذا خطأ يربّي الطّفل على عدم الاعتراف بالخطأ، وأنّه حرّ في كلّ أفعاله وأعماله.
أو العكس وهو المبالغة في سوء الظن بالأولاد حيث إنّهم مهما عملوا كذّبهم، أو لم يصدّقهم حتّى يفقدوا الثقة مع أبيهم.
5- التفريق بين الأولاد في العطية وفي المعاملات:
وذلك دون مسوّغ شرعيّ، أو الميل كلّ الميل إلى واحد دون البقية، وهذا لا يحلّ كما بيّنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم ! فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ، فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا ؟ قَالَ: (( أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ )) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ((أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُمْ مِثْلَ هَذَا ؟ )) قال: لا. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ )).
بل قَالَ بَعْضُ العلماء كما ذكر التّرمذي رحمه الله: يُسَوِّي بَيْنَ وَلَدِهِ حَتَّى فِي الْقُبْلَةِ.
6- كثرة المشكلات بين الوالدين:
وهذا مما يُسبِّب تمزُّقاً في الأسرة وتفكُّكاً فيها، وقد سبق أن أشرنا إلى أنّ من مبادئ التّربية عدم إظهار المشاكل والنّزاعات أمام الأطفال.
7- إعطاءهم ما يريدون إذا بكوا:
وهذه تربية خاطئة، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمّه كلّ ما يبكي لأجله، فينطبع في نفسه أن الصراخ والبكاء هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، ولا يزال العرب يبكون اليوم في مجلس الأمن يظنّون أنّ بكاءهم يوصلهم إلى حقوقهم !!.
8- التحذير الدائم من الأب لابنه من سوء العاقبة في المستقبل، وكثرة الكلام دوماً حول مستقبل الولد، وأنّك إذا لم تفعل كذا وكذا كانت العواقب وخيمة، إذا لم تُراجع ستفشل.. إذا لم تهتمّ بدروسك وواجبك في المدرسة فلا أمل لمستقبلك..
فهذا نذير فشل في المستقبل، إذ يظنّ الولد ويتربّى على أنّ الأساس في هذه الدنيا هو العمل لأجل مستقبله !
كلّ هذه الاهتمامات، وكلّ هذه الجهود ستصُبّ في المستقبل لنيل شهادة عُليا، ومركز مرموق ومكانة عالية، ولا أُقلِّلُ من الشؤون الدنيوية، ولكنّها إذا طغت وصارت هي الأصل فهذه المصيبة العظمى، والطامة الكبرى، ولكنّ الواجب على الأب أن يُربي ولده كذلك على العمل لأجل هذه العقيدة ولأجل هذا الدين ولأجل لا إله إلا الله وأن يتحمّل همّ الدعوة إلى الله عزّ وجل وأن يعيش لأمته لا أن يعيش لنفسه.
9- احتقار الأولاد وقلة تشجيعهم :
ومن مظاهر ذلك :
أ- إسكاتهم إذا تكلموا، والسخرية بهم وبحديثهم؛ مما يجعل الولد عديم الثقة بنفسه، قليل الجرأة في الكلام والتعبير عن رأيه.
ب- التشنيع عليهم إذا أخطئوا ولمزهم إذا أخفقوا في موقف، أو تعثروا في مناسبة.
ج- ازدراؤهم إذا استقاموا: وهذا أشد الاحتقار وأعظم صوره، فتجد من الآباء من يحتقر أولاده إذا رأى منهم تقى وصلاحا واستقامة وهداية، مما يجعلهم يضلون، وعلى أعقابهم ينكصون، فيصبحون بعد ذلك عالة عليه، وسببا لجر البلايا إليه.
هذا ونسأل المولى تبارك وتعالى أن يلهمنا رشدنا، ويعزم على الهدى أمرنا، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرّياتنا قرّة أعين، وأن يجعلنا للمتّقين إماما، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.