الحكم الأوّل: الجمع بين الصّلاتين.
والمقصود هو: الجمع بين الظهر والعصر في وقت واحد، وبين المغرب والعشاء في وقت واحد.
فقد ظنّ كثير من النّاس أنّ الجمع بين الصّلاتين إنّما هو خاصّ بالسّفر، وهذا جهل عظيم بالسنّة، فقد روى مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ:
( جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ).
قال سعيد بنُ جبير لابن عبّاس رضي الله عنه: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: ( كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ).
فهذا الحديث يدلّ على أنّ الجمع بين الصّلاتين حالة المطر كان معروفا.
قال أهل العلم: إنّ الجمع بين الصّلاتين سنّة إذا وُجِدت المشقّة في الشّتاء، من مطر أو وحل أو ريح شديدة باردة، وهو رخصة من الله عزّ وجلّ، والله يحبّ أن تُؤتَى رخصُه، وتفصيل أحكام الجمع مبسوطة في المطوّلات.
وإن تعجب فاعجب إذا علمت أنّ الذين يستعظمون الأخذ بهذه الرّخصة هم قوم لا تراهم في المسجد إلاّ يوم الجمعة والعيدين..!
وهذا الحكم كلّه يدلّ على فضل الجماعة، وأنّه لأجل تحصيل بركة الصّلاة جماعةً شُرِع الجمع بين الصّلاتين.
ولكنّ هذا التّعظيم للجماعة قد خفّف الله فيه، ويسّر الأمر له في اليوم واللّيلة المطيرة، وذلك رفقا بالنّاس، فالله هو الّذي أمر بالجماعة، وهو الذي رخّص أحيانا في تركها، لذلك كان هذا هو:
الحكم الثّاني: الصّلاة في البيوت.
وعندئذ فإنّ من السنّة أن يقول المؤذّن في المطر: (صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ ) أو ) أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ) أو: ( صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ ) أو ) وَمَنْ قَعَدَ فَلاَ حَرَجَ ).
وتقال إحدى هذه الألفاظ في ثلاثة مواضع:
1) إمّا بدلاً من ( حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ ):
لحديث ابن عبّاس رضي الله عنه في الصّحيحين أنّه قال لمؤذّنه في يوم مطير: إذا قلت ( أشهد أنّ محمّدا رسول الله ) فلا تقل: ) حيّ على الصّلاة )، قل) : صلّوا في بيوتكم ) فكأنّ الناس استنكروا، فقال )): فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي )).
2) أو بعد ( حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ ):
لحديث رجل من ثقيف في سنن النَسائي أنه سمع مناديَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم يقول في ليلة مطيرة في السَّفر: (حيّ على الصّلاة) (حيّ على الفلاح) (صلّوا في رحالكم)، وإسناده صحيح.
3)أو بعد الانتهاء من الأذان:
لحديث ابن عمر رضي الله عنه في الصّحيحين أنّه أذّن في ليلة باردة بضجنان ثمّ قال: ( صلّوا في رحالكم ) فأخبرنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر مؤذّناً يؤذّن ثمّ يقول على إثره) :أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ) في اللّيلة الباردة أو المطيرة، أو في السّفر ).
وعن نعيم النّحام قال: نودي بالصّبح في يوم بارد وأنا في مرط امرأتي ، فقلت: ليت المنادي قال: (( وَمَنْ قَعَدَ فَلاَ حَرَجَ )) فنادى منادي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر أذانه)) :وَمَنْ قَعَدَ فَلاَ حَرَجَ )).
]رواه أحمد، والبيهقيّ، وصحّحه الشّيخ الألباني في "الصّحيحة" (2605). [
الحكم الثّالث: التّبكير بالصّلاة.
فكثير من النّاس يظنّ أنّ مراعاة وقت الصّلاة رِفقا بالنّاس إنّما هو خاصّ بالحرّ، وهو ما يسمّى بالإبراد، مع أنّ السنّة أتت بذلك في شدّة الحرّ والقرّ.
روى البخاري ومسلم عن أنس بنِ مالك رضي الله عنه قال:) كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ ).
قال المناوي عن التّبكير:" أي بصلاة الظّهر، يعني صلاّها في أوّل وقتها ".
وقال ابن قدامة في "المغني":" ولا نعلم في استحباب تعجيل الظّهر خلافا ".
قال التّرمذي: وهو الّذي اختاره أهل العلم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم: لأنّ المقصود من الصّلاة الخشوعُ والحضورُ وشدّة البرد والحرّ ممّا يُشغِل المصلّي.
الحكم الرّابع: كراهة التلثّم في الصّلاة.
التلثّم: هو تغطية الفم.
فإنّ كثيرا من النّاس ربّما صلّى وهو واضع خماره على فمه، أو ما يعرف بالفرنسية بـ: (cache-nez).
فقد صحّ في سنن أبي داود والتّرمذي ومسند أحمد عن أَبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ) نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ ).
فلم يشرع لنا تغطية الفم في الصّلاة إلاّ لدفع التثاؤب.
الحكم الخامس: كراهة اشتمال الصمّاء.
وهو أن يُدخل الرّجل يديه تحت البُرنُس والرّداء اتّقاء البرد، فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنّه قال:
( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ ).
واشتمال الصمّاء عند العرب أن يشتمل الرّجل بثوبه حيث لا يبقى له منفذ يخرج منه يده، فيشبه الصّخرةَ الصمّاء.
الحكم السّادس: الصّلاة إلى النّار.
فأغلب المدافئ يشتعل نارا، فإذا صلّى المسلم فعليه أن يجتنب أن يتّخذها سترة أو تكون في قبلته، فإنّ ذلك فيه تشبّها بالمجوس.
هذا لم يرد فيه حديث مرفوع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن نصّ أهل العلم كمحمّد بن سيرين رحمه الله على كراهته، وإن كان المصلّي لا يقصد ذلك، فقد أمرنا بسدّ كلّ طريق يؤدّي للشّرك ومشابهة المشركين.
ألا ترى أنّنا نُهينا عن الصّلاة في المقابر وإلى القبور، ونُهينا عن الصّلاة وقت طلوع الشّمس وغروبها ؟
قبل أن أضع قلمي هذا، فإنّي أختم حديثي بتنبيهات ثلاثة مهمّات:
1-وكلّ شيء عنده عَزَّ وَجَلَّ بمقدار:
اعلموا أنّ الله تعالى يُنزّل المطر كلّ عام بمقدار واحد سواء}: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ{ [الحجر:21]، فيصرف الله تعالى المطر حيث يشاء، حتّى إذا لم يستحقّ العباد السّقيا صرفه إلى البحار..!!
روى ابن جرير الطّبري عن ابن عبّاس رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((مَا مِنْ عَامٍ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللهَ يَصْرِفُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ حَيْثُ يَشَاءُ )) ثمّ قرأ قوله تعالى } :وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً{
[الفرقان: 50]2-نزع البركة من المطر:
فاعلموا أنّ القحط والجفاف ليس بأن لا تنزل الأمطار، ولكن بأن يرفع الله البركة عن المطر، كما يرفع العلم.
فقد روى مسلم عن أَبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَتْ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا وَلَكِنْ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا )).
3-دليل المعاد..
إنّ في إحياء الله تعالى للأرض بعد موتها لعبرةً ومثالاً لقدرته، فتتعجّب من أرض ميتة زالت عنها الحياة، وأبدلت الصّفرة خضرة، واليبسة ليونة، والسّاكن متحرّكا
تفكر فـي نبــات الأرض وانظــر إلى آثار مـا صــنــــع الملـيـك
عيـون مـن لـــجـيــن نـاظــرات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليــــــس لـه شــريــك.
وكلّ ذلك يذكّر بالحياة بعد الموت، لذا نجد أنّ الله كثيرا ما يربط بين إحياء الأرض بعد موتها وبين إحياء الموتى من قبورهم.
قال تعالى: }فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{.
وقال عزّ وجلّ }: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ{. [فاطر :9]
}وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ{ . [الزخرف:11]
وقال: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) { . [الحجّ]
وقال: }وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ] {قّ: من الآية [.11
لذلك روى البخاري ومسلم عن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ .. ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ لَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
نسأل الله تعالى الهدى والرّشاد، والحقّ والسّداد، وأن يثبّتنا على طاعته في المعاش والمعاد.
]تمّ بحمد الله[