في حين أنّ كثيرا من المفسّرين تراهم إذا رأوا تكرارا لبعض الآيات عدّوا ذلك مجرّد توكيد للمعنى، مع أنّه قد يكون لغير التّوكيد.
* ومن الأمثلة على ذلك:
قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28)}.
فقد يستشكل أحدنا وجه تكرار الفعل ( يريد ) في هذه الآيات، ويظنّ أنّه لمجرّد التّكرار والتّوكيد.
ولكنّ الصّحيح ما قاله ابن القيّم رحمه الله في"روضة المحبّين" (ص 203) أنّه:
" لمّا كان العبد له في هذا الباب ثلاثة أحوال: حالة جهل بما يحل له ويحرم عليه، وحالة تقصير وتفريط، وحالة ضعف وقلّة صبر، قابل سبحانه جهل عبده بالبيان والهدى، وتقصيره وتفريطه بالتّوبة، وضعفه وقلّة صبره بالتّخفيف ".
* ومن الأمثلة أيضا:
قوله تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران: 18]، فذهب كثيرون أنّ كلمة التّوحيد ( لا إله إلاّ الله ) تكرّرت للتّوكيد.
والصّواب: أنّها تكرّرت لغرض زائد على مجرّد التّوكيد، ذلك أنّ في الآية ذكرا لشهادة الله وملائكته وأهل العلم، وبقي القارئ للآية لم يشهد بها، وإنّما حكى شهادة غيره، فتكرّرت الشّهادة ليكون هو أيضا بتلاوته لها من الشّاهدين.[انظر "مدارج السّالكين"(3/459)].
* فكذلك الحال في تكرار ( الرّحمن ) و( الرّحيم ) مرّتين في الفاتحة، وتكمن فائدة ذكر الاسمين الكريمين مرّة أخرى من ثلاثة أوجه:
- الأوّل: أنّ ربوبيّة الله عزّ وجلّ - سيادته وملكه وتدبيره - مبنيّة على الرّحمة الواسعة للخلق؛ لأنّه تعالى لمّا قال:{رَبِّ العَالَمِينَ} كأنّ سائلاً يسأل: ما نوع هذه الرّبوبية ؟ هل هي ربوبيّة أخذ وانتقام ؟ أو ربوبية رحمة وإنعام ؟ فقال تعالى:{الرّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
- الثّاني: ما ذكره القرطبيّ وغيره أنّه لماّ كان في اتّصافه بربّ العالمين ترهيب ومهابة، قرنه بقوله: ( الرّحمن الرّحيم ) لما تضمّنه من الترّغيب.
- الثّالث: أنّ الله ذكر صفة الرّبوبيّة الّتي تدلّ على الجلال، بين صفتي الرّحمة اللّتين تدلاّن على الجمال، ليدلّ عباده على أنّ شأنه سبحانه هو الرّحمة.
لذلك أخبرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قائلا: (( إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي )).
وقد سئل عليّ رضي الله عنه عن أرجى آية في القرآن الكريم فقال: قوله تعالى:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيم } [الحجر: 50]؛ وذلك لأنّ الله أخبر عن صفة الرّحمة والمغفرة بأسمائه الحسنى الدالّة على الثّبوت، ولم يخبر عن العذاب باسم ولا صفة، ولم يقل: وأنّي أنا المعذّب.
فله سبحانه وحده الحمد والمنّة.