الشّرح:
هذا الحديث فيه التّرغيب الشّديد في التّعجيل بالحجّ، وذلك لأنّ الأصل هو المسارعة إلى فعل الصّالحات، والمسابقة لاغتنام فرص الطّاعات، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران :133]، وقال:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد من: 21].
وقد أثنى الله تبارك وتعالى تعالى على خيرة عباده، وصفوة أوليائه بذلك، فقال:{ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء من:90].
- قوله: ( يَعْرِضُ له ): أي يطرأ عليه، ومنه سمّي الشّيء الطّارئ بالعارض.
وأصل اشتقاق الفعل من ( عُرْض الشّيء ) وهو: جانبه، فكأنّ هناك شيئا يريد أن يقف ويحول دون العبد والحجّ.
- ( لهُ ): يحتمل أنّ الضّمير يعود على المكلّف، كما هو الظّاهر، وعليه جرى كلّ من ذكر هذا الحدبث، ويحتمل أنّ الضّمير عائد على البيت، فيُحمل على معنى الأحاديث السّابق ذكرها، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( اِسْتَمْتِعُوا بِهَذَا البَيْتِ، فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ، وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ )).
والصّواب أنّه يعود إلى المكلّف، لرواية البيهقيّ بلفظ: (( مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ )).
- قول المصنّف رحمه الله:" رواه أبو القاسم الأصبهاني ": قال الشّيخ الألباني رحمه الله في تعليقه:" لقد أبعد المصنّف النَّجعة، فقد أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو مخرّج في "الإرواء" برقم (972) ".
الفوائد:
- استدّل بهذا الحديث من قال: إنّ الحجّ واجب على الفور لمن قدِر عليه، وهو قول الإمامين مالك وأبي حنيفة، واختيار بعض أصحاب الشّافعي.
وقال الشاّفعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن الشّيباني: إنّه على التّراخي، واحتجوا بأنّه صلَّى الله عليه وسلَّم حجّ سنة عشر، وفرض الحجّ كان سنة ستّ أو خمس.
وأجيب: بأنّه قد اختلف في الوقت الّذي فرض فيه الحجّ، ومن جملة الأقوال أنّه فرض سنة تسع أو عشر، وهما أقوى وأصحّ. لأمرين اثنين:
الأوّل: أنّه يبعُد أن يفرِض الله الحجّ على المسلمين ومكّة لم تُفتح بعد.
الثّاني: أنّ آية فرض الحجّ وقعت في سورة آل عمران، وهي ما نزلت إلاّ العام التّاسع أو العاشر، كما قال ابن تيمية وابن القيّم رحمهما الله.
- وإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يحجّ إلاّ العام العاشر، فإذا كان الحجّ فرض ذلك العام فلا إشكال.
- أمّا إن كان فُرِض العام التّاسع فلماذا لم يحجّ صلّى الله عليه وسلّم، واكتفى صلّى الله عليه وسلّم بأن يبعث المسلمين إلى الحجّ على رأسهم صدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه، حتّى سمّيت هذه الحجّة بحجّة أبي بكر رضي الله عنه ؟
- فالجواب عن ذلك من وجهين اثنين:
- انشغاله باستقبال الوفود، فإنّ العام التّاسع سمِّي بعام الوفود لكثرتهم.
- أنّ المشركين ما زال منهم من هو على شركه يعصمه عهدٌ بينه وبين النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما كان النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليجتمع مع المشركين في طوافه وسعيه، لشركهم وانحلالهم، لذلك كانت هذه الحجّة مصحوبةً ببيانين عظيمين:
الأوّل: منع التعرّي داخل المسجد الحرام أثناء الطّواف.
وكانت تلك من عادات الجاهليّة الّتي نزل لإبطالها قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} [الأعراف: من الآية31].
الثّاني: ألاّ يحجّ بعد هذا العام مشركٌ.
فلمّا طهّر الله البيت الحرام منهم حجّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكان تراخيه لعذر، ومحلّ النزاع التراخي مع عدمه، وانظر لذلك "زاد المعاد"، و" نيل الأوطار ".
نعم، لقائل أن يقول: فلماذا لم يحجّ كلّ الصّحابة العام التّاسع، وهم ليس لديهم عذر مثل عذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
فالجواب: كان الغالب على الصّحابة رضي الله عنهم الحاجة، فما كان بمستطاع كلّ واحدٍ منهم أن يجد الزّاد والرّاحلة وما يلزم للحجّ، وليس هناك ما يدفعه لبذل المجهود لذلك، وتكليف نفسه ما لا تطيقه.
وها هي أمّ سنان الأنصاريّة رضي الله عنها تعتذر وتخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها ما تركت مرافقته في الحجّ إلاّ لحاجتها، فما كان منه صلّى الله عليه وسلّم إلاّ أن قال: (( إِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي )) [رواه الشّيخان].
أمّا وقد عزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحجّ العام العاشر، فحينها تسقط جميع المشاقّ، وتذوب جميع الأعذار، فيبذل كلّ واحد منهم ما لديه، ويبيع ما خلفه وما بين يديه، ليحجّّ مع نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك قال جابر - كما في صحيح مسلم -:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ ... "
والله أعلم.