نعم، قد كان الرّاشدي مشهورا في زمانه، ولكن قد ناله بسبب اجتهاداته، وجهرِه بالحقّ، ومخالفتِه لأكثر أهل زمانه محنةٌ أطفأت شهرتَه، وأخّرته عن منصبه، بل أخرجته من بلده !
إنّها المحنة التي كان سببها الظّاهر والمباشر تصريحه بعقيدة الإثبات في الصّفات، وردّه على أهل التأويل من الأشعريّة .. تكلّم عن ذلك في كتاب سمّاه « متّسعة الميدان »، كما نظم في ذلك قصيدة قال في مطلعها:
خَبِّـرا عنّـي المــؤوِّل أنّـي *** كافـرٌ بمـا قضتـه العقـول
ما قضته العقول ليس من الديـ *** ـن، بل الدّين ما حوته النّقـول
وقد سطّر الحسين الورتيلاني خبرَ هذه المحنة في رحلته فقال:
" وقد وقعت بينه وبين طلبة قسنطينة مخاصمة عظيمة، ومنازعة كبيرة في مسألة حتّى رموه بالتّجسيم، بل بعضهم كفّره ومن الإسلام أخرجه، وذلك خطر كبير في الدّين ... وذلك من تلامذته ومحبّيه، وهذه المسألة قوله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، فقال هو في اليد: إنّها حقيقة، ومع ذلك فإنّها ليست جارحة ولا جسما، بل يستحيل ذلك ... وقدح في التأويل لها بالقدرة أو صفة زائدة يخلق بها الأشراف من الخلق؛ لأن التأويل محوج إلى الدّليل، والخروج من الحقيقة إلى نوع من المجاز، فلم يكترث بالتأويل إذ البقاء مع الحقيقة هو الأصل ".
ثمّ بيّن أنّه لم يقل شيئا خرج به عن قول أهل السنّة، ولا أتى بما ينكر، وكشف حقيقة الحال فقال:
" وإنّما هو تحاملٌ عليه سببه الحسد والبغض والتّنافس، وإنّما رموه بذلك لما علموا منه أنّه طويل اللّسان عليهم بالعلم، بل نسبوه إلى كثرة الرّشوة وغير ذلك ممّا لا يناسبه، بل سمعت من بعضهم أنّه قال: صرّح بالتّجسيم غير ما مرّة، فقلت حين اجتماعي بهم: مجرّد هذا الإطلاق لا يلزم عليه شيء إذ عليه أكثر الأمّة، ومنهم من أوّلَها بالقدرة ومنهم من توقّف.
فلمّا أراني الرّسالة الموضوعة لهذا الكلام، رأيتُها مُنَقَّحة سالمة من غير سوء الاعتقاد، خصوصا التّجسيم، وغايتها أنه يبطل أدلّة المؤوَّل ويصحّح القول باليد حقيقة، غير أنّها لا يعلمها إلاّ الله، لكن هذا كلّه بعد نفي التّجسيم، وما يشعر بالإمكان والحدوث، وقد بالغوا في تضليله، إلى أن أرادوا الفتك به عند السّلطان، فسَلِم والحمد لله ونجا من شرّهم، غير أنّهم أخرجوه عن الموضع المعدّ له من القضاء وصيّرُوه لأنفسهم بالتعلّق ممّا كان متمكنا من السّلطان ".
ولقد كان الرّاشدي من المتّفقّهين على مذهب مالك رحمه الله، ولكنّه كان مائلا إلى الاستدلال والاجتهاد في المسائل، بمعنى أنّه لم يكن مقلّدا محضا، كما هو حال أكثر المتأخّرين.
وقد ذكر الحفناوي أنّه صنّف كتابا في الاجتهاد يدلّ على تبحّره في عِلْمَيْ الكلام والأصول وأنّه ادّعى فيه الاجتهاد.
وكان رحمه الله ممّن نجّاهم المولى عزّ وجلّ من الوقوع في حبال مدّعي التصوّف، بل كان ممّن تصدّى لخرافاتهم ولبدعهم، وكلّ مظاهر انحرافهم.
قد ذُكِر للشّيخ الرّاشدي مؤلّفات تدلّ على مشاركته في الفنون وتوسّعه فيها، نذكرها حَسَب مواضيعها:
أ) منها ما كان موضوعه العقيدة كـ:
- " متسعة الميدان في إثبات وجه الوزن وآلة الميزان " الّذي سبّب له المحنة المذكورة.
- ومنها حاشية على "المواقف العضدية".
و"مفاد التحصيل لإعداد السبيل"، وهو منظوم مع شرحه، وضعه ردًّا على مخالفيه في قضيّة التّأويل.
ب)- ومنها ما كان في الفقه وأصوله، كـ:
- كتابه في "مباحث الاجتهاد"، بسط فيه مسائل أصوليّة وكلاميّة.
- و"تحفة الإخوان في تحريم الدخان"، وقد صدر عن دار الغرب سنة 1997 م.
- وجاء في " تعريف الخلف ":" وله تعليقات جمّة، وفتاوى ومسائل ابتكاريّة جليلة، وتفسير عدّة آيات وقعت بمجالس صالح باي ".
ج) كما كان مشاركا في الأدب، والشّعر، فقد ذكر في آثاره:
- قصيدة في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقصيدة أخرى في مدح شيخه المكّودي رحمه الله.
وإنّ الوقوف مع ترجمة هذا العالم الجزائريّ المغمور قد ذكّرني بكلمة صدّر بها ابنُ حزم كتابَه في " خصائص الأندلس " بيّن فيها حالة غير مرضيّة رآها من خصائص الأندلسيّين، ولعلّهم قد ورثوها عن أهل المغرب، قال رحمه الله:
" فإنّها خُصّت من حسد أهلها للعالِم الظّاهر فيهم، الماهر منهم واستقلالهم كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبّعهم سقطاته وعثراته، وأكثر ذلك مدة حياته بأضعاف ما في سائر البلاد.
إن أجاد قالوا: سارق مُغِير، ومنتحل مدّعٍ !
وإن توسّط قالوا: غثّ بارد، وضعيف ساقط !
وإن باكر الحيازة لقصب السّبق، قالوا: متى كان هذا ؟ ومتى تعلّم ؟ وفي أيّ زمان قرأ ؟ ولأمّه الهبل !
وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين: إمّا شفوفا بائنا يعليه على نظرائه، أو سلوكه في غير السبيل التي عهدوها، فهنالك حمي الوطيس على البائس، وصار غرضا للأقوال، وهدفا للمطالب، ونصبا للتسبّب إليه، ونهبا للألسنة، وعرضة للتطرّق إلى عرضه، وربّما نُحِلَ ما لم يقل ! وطُوِّق ما لم يتقلّد ! وألِحق به ما لم يفُهْ به، ولا اعتقده قلبه ! وهو السابق المبرّز إن لم يتعلق من السلطان بحظّ أن يسلم من المتآلف، وينجو من المخالف، فإن تعرّض لتأليف غُمِز ولُمِز، واشتطّ عليه، وعظم يسير خطبه، واستشنع هيّن سقطه، وذهبت محاسنه، وسترت فضائله، وهتف ونودي بما أغفل، فتنكسر لذلك همّته، وتكلّ نفسه وتبرد حميّته ".