" كتاب الذّكر "
- ( كتاب ): لغةً: معناه الضمُّ والجمع، يقال: كتبت كَتْباً وكتابةً وكتاباً، ومنه قولُهم: تكتَّبتْ بنُو فلان، إذا اجتمعُـوا، ومنه الكتيبة.
وكَتَبَ: إذا خطَّ بالقلم؛ لأنّه جمعٌ للكلمات والحروف، فـ(كتاب): بِمعنَى مكتوب، كقولهم: بساط بمعنى مبسوط، وإله بمعنى مألوه، وغير ذلك.
اصطلاحاً: اسم لجملة مختصة من العلم، ويقسّم إلى أبواب وفصول.
- ( الذّكر ) يطلق ويراد به معنيان اثنان:
1-الحفظ للشّيء، وهو ما يعرف بالتذكّر، والتّذكرة، والذّكرى، فهو يقابل النّسيان، بمعنى الغفلة عن الشّيء.
وحينئذ يقال: ذِكر وذُكر، وتقول: اجعله منك على ذُكر وذِكر، ومنه تسمية القرآن "ذكرا" لأنّه به يُحفظ أمرُ الله، ولأنّه يذكّر العباد بأمر الله، قال تعالى:{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، وقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1]، ومنه قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: من الآية63]، أي: احفظوه بأن تدرسوا ما فيه، وتعملوا به.
ومن ذلك الاستذكار: أي طلب الحفظ، والمذاكرة هي مراجعة الشّيء لحفظه، وآلة ذلك القلب. أمّا المعنى الثّاني، فهو:
2- جريان الشّيء على اللّسان، فتقول: فلان يذكر الله، ويذكر فلانا بخير، فكلّ ما يجري على لسانك فقد ذكرته. ولذلك يسمّى القرآن أيضا ذكرا، لأنّه ممّا ينبغي أن يجري على لسان العبد.
وأراد بعضهم أن يزيد معنى ثالثا، وهو " الإشهار بالشّيء "، فتقول: فلان يحبّ أن يُذكر، أي: يشتهر أمره، ومنه قوله تعالى-على قول-: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، ولكنّ المتأمّل يُدرك أنّه راجع إلى المعنى الثّاني، فهو يريد أن يُذكر على كلّ لسان.
وإنّ المسلم مخاطب بالنّوعين معا، فعليه أن يذكر الله بقلبه وبلسانه، والدّليل على ذلك - وسيأتي معنا إن شاء الله - قول النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللَّهَ عزّ وجلّ يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ ))، قال ابن تيمية رحمه الله:
" فإنّ النّاس في الذّكر أربع طبقات:
إحداها: الذّكر بالقلب واللّسان، وهو المأمور به.
الثّاني: الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللّسان فحسن، وإن كان مع قدرته فترك للأفضل.
الثّالث: الذّكر باللّسان فقط، وهو كون لسانه رطبا بذكر الله ... ويقول الله تعالى: (( أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ )).
الرّابع: عدم الأمرين، وهو حال الخاسرين ".اهـ. [" مجموع الفتاوى " (10/566)].
وذلك ما أشار الله سبحانه إليه بقوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]، وبقوله:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74]، قال ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد " (2/16):
" الذّكر الحقيقيّ محلّه القلب، لأنّه ضدّ النّسيان، والتّسبيح نوع من الذّكر، فلو أطلق الذّكر والتّسبيح، لما فهم منه إلاّ ذلك دون اللّفظ باللّسان، والله تعالى أراد من عباده الأمرين جميعا، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلاّ باقترانهما واجتماعهما، فصار معنى الآيتين: سبّح ربّك بقلبك ولسانك، واذكر ربّك بقلبك ولسانك، فأُقْحم الاسمُ تنبيها على هذا المعنى، حتّى لا يخلو الذّكر والتّسبيح من اللّفظ باللّسان.
وعبّر لي شيخُنا أبو العبّاس ابن تيمية قدّس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: المعنى: سبّح ناطقا باسم ربّك متكلّما به، وكذا سبّح اسم ربّك، المعنى: سبّح ربّك ذاكرا اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلةً، لكن لمن يعرف قدرها، فالحمد لله المنّان بفضله، ونسأله تمام نعمته "اهـ.
بيان ما جاء في " كتاب الذّكر ":
ذكر المصنّف رحمه الله تعالى سبعة وثلاثين ومائة حديث (137) في فضائل الذّكر في ستّة عشر بابا:
التّرغيب في ذكر الله مطلقا في كلّ حين، ثمّ التّرغيب في مجالس الذّكر، ثمّ التّرهيب من أن يجلس المؤمن مجلسا لم يذكر الله فيه.
ثمّ شرع في التّرغيب في أذكار خاصّة، ككفّارة المجلس، ثمّ التّرغيب في التّهليل والتّحميد والتّسبيح، والتّكبير والحوقلة، ثمّ أذكار المساء والصّباح، ثمّ في الأذكار دبر الصّلوات، ثمّ الذّكر عند الرّؤى والأحلام، ثمّ الذّكر الدّافع للأرق، ثمّ أذكار الدّخول والخروج من المسجد والبيت، ثمّ الأذكار الدّافعة للوسوسة.
وختم " كتاب الذّكر " بالتّرغيب في الاستغفار، فهو ختام كلّ عمل صالح.
ونلحظ أنّه لم يستقْصِ في هذا الكتاب جميع الأذكار الواردة في اليوم واللّيلة، وغير ذلك؛ لأنّه قد ذكر جملة كثيرة منها في "كتاب النّوافل"
أنواع الأذكار:
الأذكار نوعان: مطلقة، ومقيّدة.
- فالأذكار المطلقة: هي الّتي ورد التّرغيب فيها مطلقا من غير تقييد بزمان، أو مكان، أو حال.
وحكمها: أنّها تبقى على إطلاقها، ومن خصّها بموضع دون موضع، أو زمن دون زمن، أو حال دون حال، فقد جاء ببدعة في الدّين.
وقد ذكر الإمام الشّاطبي رحمه الله في كتابه "الاعتصام" أنّ من أوسع مآخذ أهل البدع هو تقييد المطلقات.
ومن أمثلة ذلك: من يجعل الاستغفار في كلّ حالة تثاؤب، والحمد في كلّ حالة جُشاء، والحوقلة في كلّ حالة تحسّر، أو من يريد أن يجعل لفظ الاستدراك في التّسمية - بسم الله أوّلَه وآخرَه - يعمّ الوضوء وغيره، وهو إنّما ثبت في الأكل والشّرب.
وأقبح من ذلك من اخترع ذكرا من لدنه يتعبّد به النّاس، كالأذكار الّتي يضعها أصحاب الطّرق الصّوفيّة، وبعض متعصّبة الفقهاء.
أ) أمّا أصحاب الطّرق: فلكلّ طريقة منهم ذكر مميّز، ويدّعون أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو من علّمهم إيّاه، وتناسوا أنّ مجرّد الرّؤيا من الوحي، فكيف إذا اقترن بها شرع:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: من الآية93].
ب) ومتعصّبة الفقهاء يستحبّون كثيرا من الأذكار الّتي ما أنزل الله بها من سلطان، كأذكار أعضاء الوضوء، وأذكار الحجّ والعمرة، وغير ذلك.
- الأذكار المقيّدة: وهي الّتي ورد الدّليل بتقييدها بزمن، أو مكان، أو حال.
فالمقيّدة بالزّمن: كأذكار الصّباح والمساء، ودبر الصّلوات المكتوبة.
والمقيّدة بالمكان: كمن نزل منزلا، أو دخل مسجدا أو بيتا، أو غير ذلك.
والمقيّدة بحال: كالمقيّدة بحال المطر أو الصّحو، والمرض، و واللّباس، والنّوم، والأكل، وغير ذلك.
وحكمها: أنّها تبقى على تقييدها لا يجوز إطلاقها.
فمن الأخطاء: أن يأتي بالتّسبيح والتّكبير والتّحميد ثلاثا وثلاثين دبر النّوافل، وكمن يأتي بالصّلاة والتّسليم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الأذان، وغير ذلك من البدع. وسيأتي مع كلّ ذكر خاصّ بيان أجره الخاصّ به إن شاء الله.