إنّهم أئمّة الكتاب والسّنة على منهج وفهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تبعهم بإحسان، الّذين عُرِفوا بتحرّي الاستدلال من هذا المعين الصّافي، والمنبع الكافي:
لا يقدّمون في باب العقائد قواعد أهل الكلام على كلام ربّ البريّة.
ولا يقدّم في باب الأحكام آراء الرّجال على النّصوص الشّرعية.
ولا يقدّم في باب السّلوك والتّربية خرافات الصّوفيّة.
ولا يقدّم في مجال الدّعوة وطريقِها الأفكار البشريّة، والسّياسات الوضعيّة، والنّزعات الحزبيّة.
فمن كانت هذه طريقته في الاستدلال، فهو السّنّي وإن أخطأ، وإن وقع في بدعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن وقع في بدعة من البدع:
" ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمّة وأئمّتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة.
بخلاف من والى موافقه، وعادى مخالفه، وفرّق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسّق مخالِفَه دون موافقِه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرّق والاختلافات.
ولهذا كان أوّل من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع: الخوارج المارقون، وقد قاتلهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفين ..."
[" مجموع الفتاوى " (3/349)].
وقوله رحمه الله:" ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمّة وأئمّتها لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنّة "، يقصد به: بعض بحار هذا الدّين: كعكرمة، والثّوري، وسعيد بن جبير، والضّحاك، ومقاتل، وغيرهم كثير ممّا لا يمكن إحصاؤه رحمهم الله.
إذن فهذا الكلام عن المقتدين بالكتاب والسنّة، أمّا المتّبعون لأهوائهم من المبتدعة وغيرهم، فليس على مثلهم يُلوى، ولا على مثلهم يحزن.
القاعدة الثّانية: لا بدّ من بيان الخطأ.
إذا علمنا أنّ هذا العالم الواقع في هذا الخطأ لا يزال معتبرا من أئمّة الدّين، فهذا لا يعني أبدا ألاّ يبيّن خطؤه.
فهناك طائفة فرّطت فقالت: نسكت على الأخطاء والزلاّت، ونغطّي الهفوات والهِنات !
وطائفة أفرطت قالت: لا بدّ من التّشهير بهم والتّحذير منهم !
والحقّ وسط لا نقص ولا شطط .. فلا بدّ من بيان الخطأ لكن في أدب ..
لأنّ بيان الخطأ واجب شرعيّ، وهو من الميثاق الذي أخذه الله تعالى من العلماء، ولا يزال العلماء سلفا وخلفا يتكلّمون في المسائل المختلف فيها، ويبيّنون الصّواب، ويدمغون به الباطل.
القاعدة الثّالثة: لا بدّ من الأدب والرّفق في النّصح وبيان الخطأ.
إذا كان هذا المخطئ لا يزال في دائرة أهل السنّة، وكان لزاما بيان ما وقع فيه من الخطأ، فلا بدّ من الأدب والرّفق في النّصح وبيان الخطأ.
لأنّ الحقّ بطبعه ثقيل، فإذا أسبغت عليه طابع الشّدة نفر منك السّامع، ولم يتحقّق المقصود وهو: بيان الحقّ والدّعوة إليه.
هذا حقّ المسلم على المسلم، أن يجد الأعذار كلّ منهما للآخر، وأن يعطف كلّ منهما عل الآخر، وأن يحبّ كلّ منهما الخير للآخر، ما دام الجميع قد أجمع على أنّه لا معصوم من البشر، والكمال المطلق لله تعالى.
فالعالم أولى بهذا الحقّ من غيره، إذ فضلهم مشهور، وذنبهم بعد الاجتهاد مغفور.
واقرأ في كتب الأئمّة الأعلام الّذين ملئوا الدّنيا بمصنّفاتهم، تجد الأدب الجمّ .. تجد التّواضع .. تجد الاحترام والتّقدير والإجلال .. تجد حفظ الفضل لأهله - ولا يحفظ الفضل إلاّ من كان من أهله -.
- تجد الأئمّة الحفّاظ إذا اطّلعوا على شيء، قالوا: ( وقد قال فلان - عفا الله عنه – كذا ...)، ( وفيه كلامه نظر ...)، ( ولم يُصِب رحمه الله حين قال كذا ...)، كلّ ذلك من باب الأدب.
- ولذلك قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}، فقدّم له المغفرة والعفو، قبل العتاب واللّوم، لذلك ينبغي التّأدّب مع الأئمّة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
- قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في "مدارج السّالكين"(1/312):
" فلأهل الذّنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهّرون بها في الدّنيا، فإن لم تَفِ بطهرهم طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة:
نهر التّوبة النّصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفّرة.
فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثّلاثة، فورد القيامة طيّباً، طاهرا، فلم يحتج إلى التّطهير الرّابع "اهـ.
- وقد حقّق ابن تيمية رحمه الله تحقيقا ماتعا القاعدة في التّعامل مع المخالف، فبيّن وجوبَ التّفريق بين كلام العالم وشخصه: فيجب بيان الخطأ المسطور وردّه، أمّا الشّخص:
أ) فقد يكون صادقا في خدمة الدّين، ولا يتعمّد الكذب.
ب) وقد يجتهد، ويكون ما قاله هو مبلغ علمه، أو مقلّدا.
ت) ملاحظة ما مات عليه فقد يكون قد تاب.
ث) ملاحظة الجهود المبذولة في نصرة الحقّ.
- وقال ابن القيّم رحمه الله في " مفتاح دار السّعادة " (1/176):
" من قواعد الشّرع والحكمة أيضا: أنّ من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنّه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويُعْفَى عنه مالا يُعْفَى عن غيره؛ فإنّ المعصية خبث والماء إذا بلغ قلّتين لم يحمل الخبث.
بخلاف الماء القليل، فإنّه لا يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمر: (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )). وهذا هو المانع له صلّى الله عليه وسلّم من قتل من حَسَّ عليه وعلى المسلمين، وارتكب مثل ذلك الذّنب العظيم، فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أنّه شهد بدرا، فدلّ على أنّ مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السّقطة العظيمة مغتفرةً في جنب ماله من الحسنات ".
- وقال شمس الدّين بحقّ الإمام الذّهبي في " سير أعلام النّبلاء "(10/254):
" قال سلمة بن شبيب: قلت لأحمد بن حنبل: طلبت عفّان في منزله، قالوا خرج، فخرجت أسأل عنه فقيل: توجّه هكذا، فجعلت أمضي أسأل عنه، حتّى انتهيت إلى مقبرة، وإذا هو جالس يقرأ على قبر بنت أخي ذي الرّياستين ! فبزقت عليه، وقلت: سوءةً لك ! قال: يا هذا الخبز الخبز. قلت: لا أشبع الله بطنك.
قال: فقال لي أحمد رحمه الله: لا تذكرنّ هذا، فإنّه قد قام في المحنة مقاما محمودا عليه، ونحو هذا من الكلام "اهـ.
وقال أيضا في (14/374) في ترجمة الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى:
" ولو أنّ كلّ من أخطأ في اجتهاده مع صحّة إيمانه، وتوخّيه لاتّباع الحقّ أهدرناه وبدّعناه، لقلّ من يسلم من الأئمّة معنا، رحم الله الجميع بمنّه وكرمه ".
وقال أيضا في (16/96) من " السّير " في ترجمة الإمام ابن حبّان رحمه الله بعد ما ذكر إنكار النّاس عليه قوله " النبوّة العلم والعمل "، وكيف حكموا عليه بالزّندقة ! وهُجِرَ ! وكتِب فيه إلى الخليفة ! فكتب بقتله:
" هذه حكاية غريبة، وابن حبّان من كبار الأئمّة، ولسنا ندّعي فيه العصمة، لكن هذه الكلمة التي أطلقها قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزّنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها لا ينبغي، لكن يُعتذر عنه، فنقول: لم يُرِد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( الحَجُّ عَرَفَةُ ))، ومعلوم أنّ الحاجّ لا يصير بمجرّد الوقوف بعرفة حاجّا، بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنّما ذكر مهمّ الحجّ، وكذا هذا، ذكر مهمّ النبوّة، إذ من أكمل صفات النبيّ كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيّا إلاّ بوجودهما..أمّا الفيلسوف فيقول: النبوّة مكتسبة ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر ولا يريده أبو حاتم أصلا، وحاشاه "اهـ.
- وروى الخطيب رحمه الله في " الكفاية " عن ابن المسيّب قال: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلاّ وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله.
الشّاهد: أنّه يحرم تتبّع عثرات العلماء، والتنقيب عن أخطائهم، والتّشهير بهم، والحطّ من مرتبتهم، فإنّه نقص كبير وشرّ مستطير.
ولا ينبغي لنا أن نتقمّص قميص النّساء في كفرانهنّ للعشير، يحسن إليها زوجها الدّهر كلّه، فإذا رأت منه ما تكره قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ !
قد ينبت الدّم على مرعـى الثّرى *** وتبقى حزازات النّفوس كما هيا
أيذهب يوم واحـد إن أسأتـه *** بصالح أيّـامي، وحسـن بلائيا
وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة *** ولكنّ عين السّخط تبدي المساويا
روى أبو داود عن أبي برزةَ الأَسلمِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ )).
ومن محاسن ما ذكره العلماء: ما رواه البيهقيّ في " شعب الإيمان " أنّ سفيان بن حسين رحمه الله قال: ذكرت رجلا بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الرّوم ؟! قلت: لا، قال: أغزوت السّند والهند والتّرك ؟ قلت: لا، قال: أفسلم منك الرّوم والهند والسند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ؟! فلم أعُد بعدها أبدا.
وقال ابن المبارك رحمه الله: المؤمن يلتمس المعاذير، والمنافق يتتبّع الزّلاّت.
وقال آخر: المؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتِك ويفضح.
والله الموفّق لا ربّ سواه.