السبت 08 رمضان 1446 هـ الموافق لـ: 08 مارس 2025 08:45

حديثُ رمضانَ: ( عبادةُ الأحرَارِ ) موضوع مميز

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

مقالٌ للأستاذ: محمود محمّد شاكرٍ $ 

نُشر عام 1369هـ الموافق 1950م [1] 

-    ( سألتَنِي أنْ أكتبَ لك شيئاً عن هذهِ الكلمةِ المُعذَّبَةِ: الصّيامِ؛ فقد ضربَ عليها النّاسُ من الحِكَمِ، وصبُّوا عليها من الفوائِدِ ما لوْ تأمّلتَه لم يَعْدُ أن يكونَ عَرَضاً طفيفاً من أعراضِ التّجاربِ الّتي تمرُّ بالصّائمِ. ولرأيتَهم يبنُون فوائدَهم وحِكَمَهم على غيرِ منطقٍ:

كالّذي يزعُمونه مِن أن الغنِيَّ إذا جاعَ في صيامِه أحسَّ بل عرَفَ كيف تكونُ لذْعةُ الجوعِ على جوفِ الفقيرِ، فهو عندَئِذٍ أسرعُ شيءٍ إلى الجودِ بمالِه وبطعامِه.

ثمّ يزعُمون أنّ الفقيرَ الصّائمَ إذا عرفَ أنّه استوَى هو والغنيُّ في الجوعِ قنِعَ واطمأنّتْ نفسُه !

  لا أدرِي أمِنْ شماتتِه بالغنِيِّ حينَ جاعَ كجوعِه وظمِئَ كظمئِه، أم من حبِّه للمساواةِ في أيِّ شيءٍ كانتْ، وعلى أيِّ صورةٍ جاءتْ !

 ولا تزالُ تسمعُ مثلَ هذه الحِكمَ، حتى كأنَّ ربّكَ لم يكتُبْ هذه العبادةَ إلاّ ليعيشَ الفقيرُ، وليعيشَ الغنِيُّ، كلاهما في سلطانِ مَعِدَتِه جائعاً وشبعانَ ...! 

-    ومنذُ ابتُلِيَ المسلمون بسُوءِ التّفسيرِ لمعانِي عباداتِهم، ومنذُ أدخلُوا عليها ما ليسَ منها، ساءَ أمرُهم، ودخلَ عليهم عدوُّهم من أنفسِهم ومن غيرِ أنفُسِهم، وجعلَ بأسَهم بينَهم، وتتابعُوا في الخطأِ بعد الخطأِ، حتّى تراهم كما تراهم اليومَ: ألوفٌ مؤلّفةٌ ما بين الصّينِ ومُراكِشَ، تَستبِدُّ بهم الطّغاةُ، بل تهاجِمُهم في عُقرِ دارِهم شِرذِمةٌ من قدمَاءِ الأفّاقِين، ومن أبناءِ الذُّلِّ والمسكنةِ، فتُمزِّقُ أنباءَ دينِهم ولغتِهم من الأرضِ المقدّسةِ شرَّ مُمَزَّقٍ.

وكلُّ نكيرِهم أصواتٌ تضِجُّ، ثمّ عودةٌ إلى موائِدِ الشّهواتِ ولذّاتِ النّفوسِ ومضاجعِ الرّاحةِ والتَّرفِ والنّعيمِ: حرَصُوا على الحياةِ وأسبابِ الحياةِ، فذَلُّوا حتّى أماتَهم الذُّلُّ، ولو حرَصُوا على الموتِ وأسبابِ الموتِ، لعَزُّوا به في الحياةِ الدّنيا وفي الآخرةِ. 

ولقد كُتِبَ علينا الصّيامُ ليُنقِذنا من مثلِ هذا البلاءِ، ولكنّا نسينَا اللهَ فأنسانَا أنفُسَنا، حتّى صرفْنَا أعظمَ عبادةٍ كُتِبت علينا إلى معنَى الطّعامِ نتخفّفُ منه لتَصِحَّ أبدانُنا، ونبذُلُه لنُواسِيَ فقيرَنا، ونجتمعُ عليه لتأْتَلِفَ قلوبُنا.

ونصومُ شهرَ رمضانَ فلا تصحُّ لنا أبدانٌ، ولا يُواسَى فقيرٌ، ولا تأتلفُ قلوبٌ، وإذا تمَّ بعضُ ذلك فسُرعانَ ما يزولُ بزَوالِ الشّهرِ، وتنتهِي آثارُه في النّفسِ وفي البدنِ وفي المجتمَعِ. 

-    ولو أنصفْنَا هذه الكلمةَ المظلومةَ المُعذّبَة لرأينا الصّيامَ -كما كُتِب على أهلِ هذا الدّينِ- طاعةً خالصةً بين العبدِ وربِّه، يأتِيها الفقيرُ الهالكُ ابتغاءَ رِضوانِ الله، ويأتِيها الغنِيُّ الواجدُ ابتغاءَ رِضوانِ الله، ويأتيانِها جميعاً في شهرِ رمضانَ، ويأتيانِها فُرادَى في غير شهرِ رمضانَ، لا ليَعيشَا في معانِي المَعِدَةِ بالبذلِ أو بالحِرمانِ، بل ليَخرُجا معاً سواءً عن سُلطانِ الطّعامِ والشّرابِ، وليَخرُجا معاً سواءً من سُلطان الشّهواتِ، بل ليخرُجا معاً سواءً من سلطانِ كلِّ نقيصَةٍ:

من سُلطانِ الخوفِ، فلا يخافُ أحدُهما إلاّ اللهَ ..

ومن سُلطانِ الرّياءِ، فلا يعملُ إلاّ لله. وليسَ بينَ الصّائمِ وبينَ ربِّه أحدٌ، ولا يحولُ بينَه وبينَ الاستجابةِ لربِّه شيءٌ من أشياءِ الدّنيا، أو حاجاتِ البدنِ، أو داعياتِ الغرائزِ، أو نزواتِ العقولِ. 

- فتأمُّلُ معنَى الصّيامِ من حيثُ نظرتُ إليه: هو عِتقُ النّفسِ الإنسانيّة من كلِّ رقٍّ:  

من رِقِّ الحياةِ ومطالِبِها، ومن رِقِّ الأبدانِ وحاجاتِها في مآكِلِها ومشارِبِها .. 

من رِقِّ النّفسِ وشهواتِها، ومن رِقِّ العقولِ ونوازِعِها ..

ومن رِقِّ المَخاوِف حاضرِها وغائبِها، حتّى تشعُرَ بالحرّيةِ الخالصةِ: حرّيةِ الوجودِ، وحرّيةِ الإرادةِ، وحرّيةِ العملِ.

فتحريرُ النّفس المسلمة هو غايةُ الصّيامِ الّذي كُتِب عليها فرضاً وتأتِيه تطوُّعاً.

ولتعلمْ هذه النّفسُ الحرّةُ: أنّ الله الّذي استخلفَها في الأرضِ، لتُقيمَ فيها الحقَّ، ولتقضِي فيها بالحقِّ، ولتعملَ فيها بالحقِّ، لا يرضَى لها:

أن تذِلَّ لأعظمِ حاجاتِ البدنِ؛ لأنّها أقوَى منها ..

ولا لأعْتَى مطالبِ الحياةِ؛ لأنّها أسْمَى منها ..

ولا لأطْغَى قُوى الأرضِ؛ لأنّها أعزُّ سلطاناً منها. 

-    وأراد اللهُ أن يكرِّمَ هذه العباداتِ فأوحَى إلى رسُولِه أن يُخبِر النّاسَ عن ربِّه إذ قالَ: ( الصّوْمُ لِي ). فلا رياءَ فيهِ؛ لأنّه جُرِّدَ لله فلا يُرادُ به إلاّ وجهُ الله، فاستأثَر بهِ اللهُ دونَ سائرِ العباداتِ، فهو الّذي يقبَلُه عن عبدِه، وهو الّذي يَجْزِي به كما يشاءُ. 

-    وقد دلَّنا الله سبحانه على طرفٍ من هذا المعنَى، إذ جعلَ الصّيامَ معادلاً لتحريرِ الرّقبةِ في ثلاثةِ أحكامٍ من كتابه:

إذ جعلَ على من قتلَ مؤمنًا خطأً تحريرَ رقبةٍ مؤمنةٍ، ودِيةٍ مسلَّمَةٍ إلى أهلِه { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } [النّساء: 92].

وجعلَ على الّذينَ يُظاهِرون من نِسائِهم ثمّ يعودُون لما قالُوا تحريرَ رقبةٍ من قبلِ أن يتمَاسَّا { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } [المجادلة : 4]. 

وجعلَ كفّارةَ اليمينِ تحريرَ رقبةٍ { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } [البقرة : 196]. 

فانظر لِمَ كتبَ اللهُ على منِ ارتكبَ شيئاً من هذه الخطايَا الثّلاثِ: أن يُحرِّرَ رقبةً مؤمنةً من رِقِّ الاِستعبادِ، فإنْ لمْ يجِدْها فعليهِ أن يعمَلَ على تحريرِ نفسِه من رِقِّ مطالبِ الحياةِ، ورِقِّ ضروراتِ البدَنِ، ورِقِّ شهواتِ النّفسِ، فالصّيامُ - كما ترى - هو عبادةُ الأحرَارِ، وهو تهذيبُ الأحرارِ، وهو ثقافةُ الأحرارِ. 

-    ولو حرَصَ كلُّ مسلمٍ على أن يستَوعِبَ بالصّيامِ معانِي الحرّيّةِ، وأسبابِ الحرّيّةِ، ومقاليدِ الحُرّيَّةِ، وأنِفَ لدِينه ولنفسِه أن تكونَ حكمةُ صيامِه متعلِّقَةً بالأحشاءِ والأمعاءِ والبطونِ في بذلِ طعامٍ أو حرمانٍ من طعامٍ، لرأينَا الأرضَ المسلِمَةَ لا يكادُ يستقِرُّ فيها ظلمٌ؛ لأنّ للنّفوسِ المسلمةِ بطشاً هو أكبرُ من الظُّلمِ: بطشَ النّفوسِ الّتي لا تخشَى إلاّ اللهَ، ولا يملكُ رِقَّها إلاّ خالقُ السّمواتِ والأرضِ وما بينهُما. ولرأينَا الأرضَ المسلمةَ لا يستولِي عليها الاِستعمارُ؛ لأنّ النّفوسَ المسلمةَ تستطِيعُ أن تهجُرَ كلَّ لذَّةٍ، وتخرجَ من كلِّ سُلطانٍ، وتستطيعُ أن تجوعَ وتعرَى، وأن تتألَّمَ وتتوَجَّعَ صابرةً صادقةً مهاجِرةً في سبيلِ الحقِّ الأعلَى، وفي سبيلِ الحُرِّيةِ الّتي ثقَّفَها بها صيامُها، وفي سبيلِ إعتاقِ الملايينِ المُستعبَدَةِ في الأرضِ بغيرِ حقٍّ وبغيرِ سلطانٍ.

واستطاعَ كلُّ مسلمٍ أن يكونَ صرخةً في الأرضِ تُلهِب القلوبَ، وتدعُوها إلى خلعِ كلِّ شِركٍ يقودُ إليه الخوفُ من الظُّلمِ، ويُفضِّلُ إليه حبَّ الحياةِ وحبَّ التّرفِ وحبَّ النِّعمةِ، وهي أعوانُ الاستعمارِ على النّاسِ. 

-    ويومَ يعرِفُ المسلمونَ صيامَهم حقَّ معرفتِه، ويومَ يجعلُونَه مدرسةً لتحريرِ نفُوسِهم من كلِّ ضرورةٍ وكلّ نقِيصَةٍ، فحقٌّ على اللهِ يومَئذٍ أن ينصُرَ هذهِ الفئَةَ الصّائمةَ عن حاجاتِ أبدَانِها وشهواتِ نفوسِها، الطّالبةَ لما عندَ ربِّها من كرامتِه، الّتي كرَّم بها بنِي آدمَ، إذْ خلقَهُم في الدّنيَا سواءً أحراراً، لا فضْلَ لأحدٍ على أحدٍ إلاّ بالتّقوَى وفعلِ الخيراتِ. 

ويومَئذٍ ينصرُهم على عدوِّهِم، ويستخلفُهم في الأرضِ مرّةً أخرى؛ لينظُرَ كيفَ يعملونَ. 



[1] انظر: «جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمّد شاكر» (2/937)، جمعها وقرأها وقدّم لها: عادل سليمان جمال، وتمّ طبعُها بمكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003 م. 

 

أخر تعديل في السبت 08 رمضان 1446 هـ الموافق لـ: 08 مارس 2025 08:56
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي