الاثنين 18 ربيع الأول 1440 هـ الموافق لـ: 26 نوفمبر 2018 13:19

- السّيرة النّبويّة (102) غزوة أُحُدٍ: فدائيّون حول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

الحمد لله، وبعد:

كيف علم الصّحابة رضي الله عنهم بمكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ؟

كان هذا السّؤال الّذي ختمنا به لقاءنا الأخير.

فاعلم أنّه في الوقت الّذي شاع خبرُ مقتلِ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وفي الوقت الّذي كان يبحثُ عنه عليٌّ رضي الله عنه، كان النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم في قلبِ المعركة. وكان أوّلَ من عرفه واتّجه إليه أحدُ الأنصار، إنّه الشّاعر المجاهد: كعب بن مالك رضي الله عنه.

روى ابن إسحاق، والطّبراني في "الأوسط"، والبيهقيّ في "الدّلائل" عن عبد الله بن كعب بن مالك قَالَ:

( كَانَ كَعْبٌ رضي الله عنه أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللهِ بَعْدَ الهَزِيمَةِ وَقَوْلِ النَّاسِ " قُتِلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّمقاَلَ كَعْبٌ: عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تُزْهِرَانِ مِنْ تَحْتِ المِغْفَرِ، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أَبْشِرُوا، هَذَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. قَالَ: فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اُسْكُتْ ).

فعل ذلك صلّى الله عليه وسلّم لئلاّ يعلم المشركون بمكانه؛ فإنّ ذلك ما يسعون إليه .. عندئذٍ سمع تلك الصّرخةَ سعدٌ رضي الله عنه وطلحةُ بنُ عبيد الله رضي الله عنه، وبعضُ الأنصار، فهبّوا نحو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

ولكن .. سمعها أيضاً جمعٌ من المشركين فلحِقُوا بهم ! فماذا حدث بعد ذلك ؟

الأمر يتعلّق الآن بحياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو موته ! وبضعة أمتار تفصل بين ذلك.

وكانت هذه اللّحظات العصيبة باباً من أبواب الجنّة، أراد الله أن يفتحَها لمن يدافع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

روى مسلم عن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ [أي: اقتربوا منه]، قالَ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ ؟- أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ -)).

قالَ: فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا، فَقَالَ:

(( مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ ؟- أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ -)).

فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لِصَاحِبَيْهِ:

(( مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا )).

يعني أنّ الأنصار وحدهم هم من ذبّوا ودافعوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دون أحد من المهاجرين.

ولكنّ الأنصار لا يدعونَ الفرصة لأحد من المهاجرين أن يفْدِيَ النبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم دونهم، فكانوا يتنافسون على ذلك، وكأنّ الفداءَ من اختصاصِهم، فهم: الأنصـار، وكان أوّل شيء بايعوا عليه النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم هو النّصرة أو الموت.

فتلاحق الأنصار .. هذا بعد الآخر.. يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه في رواية أخرى[1]:

( لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَوَلَّى النَّاسُ كَانَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي نَاحِيَةٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، وَفِيهِمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، فَأَدْرَكَهُمْ الْمُشْرِكُونَ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وقالَ: (( مَنْ لِلْقَوْمِ ؟ )).

فقالَ طَلْحَةُ: أنَا. قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( كَمَا أَنْتَ )).

فقالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: (( أَنْتَ )).

فقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا الْمُشْرِكُونَ، فقالَ: (( منْ لِلْقَوْمِ ؟)).

فقالَ طَلْحَةُ: أَنَا. قالَ: (( كَمَا أَنْتَ )).

فقالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: أَنَا. فقالَ: (( أَنْتَ )). فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.

ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَيُقَاتِلُ قِتَالَ مَنْ قَبْلَهُ حَتَّى يُقْتَلَ، حَتَّى بَقِيَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَنْ لِلْقَوْمِ ؟)) فقالَ طَلْحَةُ: أَنَا. فَقَاتَلَ طَلْحَةُ قِتَالَ الأَحَدَ عَشَرَ، حَتَّى ضُرِبَتْ يَدُهُ فَقُطِعَتْ أَصَابِعُهُ، فَقَالَ: حَسِّ ! فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ قُلْتَ بِسْمِ اللَّهِ لَرَفَعَتْكَ الْمَلَائِكَةُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ )).

وبقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جريحَ الوجه، أشجَّ الرّأس، مكسورَ الرَّبَاعيَة، شديدَ الظّمأ صلّى الله عليه وسلّم .. ومعه رجلان فقط، أحدهما قد قُطِعت أصابعُه، والثّاني لا ندري عنه شيئا سوى أنّه كان لا يترك أحدا يقترب من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ رماه بالنّبل.

روى البخاري ومسلم عنْ أَبِي عُثْمَانَ قالَ: ( لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ رضي الله عنهما ).

وها هو جابر رضي الله عنه - يكمل لنا حديثه السّابق -: ( ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ ) أي المشركين الّذين علموا بمكانه.

كان ذلك عندما انتشر الخبر أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم لا يزالُ حيّاً يقاتِل، فتداعى الصّحابة من كلّ مكان، واجتمع عليه من سمّينا من الصّحابة .. ورأوه على الحال الّتي وصفنا.

فماذا بعد ذلك ؟

قال كعب بن مالك رضي الله عنه في تتمّة حديثه السّابق: ( فلمّا عرف المسلمون رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، نهضوا به، ونهض معهم نحو الشِّعب معه أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطّاب، وعليّ بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزّبير بن العوّام، والحارث بن الصمّة رضي الله عنهم أجمعين في رهطٍ من المسلمين.

قال: فلمّا أُسنِد رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم في الشِّعب، أدركه أُبَيُّ بنُ خَلَف وهو يقول:" أين أنت يا محمّد ؟ لا نجوتُ إن نجوتَ !".

فقال القوم: أيعطِف عليه يا رسول الله رجلٌ منّا ؟ فقال: (( دَعُوهُ )).

فلمّا دنا، تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحَربة من الحارث بن الصمّة، وهو في أشدّ حالات الإعياء والعطش، إلى حدٍّ أنّه كان يمشي ويقع ! ولكنّه استجمع الآن كلّ قُواه ليفتح بابَ الجحيم على مصراعيه لهذا الطّاغوت الّذي خرج ليثأر لأخيه أميّة.

وهنا سمعوه صلّى الله عليه وسلّم يقول ما يبُثُّ الرّعبَ في قلب أشجع الفرسان .. إنّه يستسقي .. يدعو بالسّقيا.. ولكنّه لا يستسقي مطرا .. إنّه يستسقي دمًا !

لندعْ الزّبيرَ بنَ العوّام رضي الله عنه يخبرنا عن تلكم اللّحظات العجيبة. روى ابن أبي شيبة عن الزّبير رضي الله عنه قالَ:

( شُجَّ النَبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَذَلَقَ مِنَ العَطَشِ، حَتَّى جَعَلَ يَقَعُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَجَاءَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يُطَالِبُهُ بِدَمٍ أَخِيهِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَقَالَ:

" أَيْنَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَلْيَبْرُزْ لِي ؟ فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا قَتَلَنِي ". فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَعْطُونِي الحَرْبَةَ )).

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَبِكَ حِرَاكٌقالَ: (( إِنِّي قَدْ اسْتَسْقَيْتُ اللهَ دَمَهُ )).

فَأَخَذَ الحَرْبَةَ، ثُمَّ مَشَى إِلَيْهِ، فَطَعَنَهُ فَصَرَعَهُ عَنْ دَابَّتِهِ، وَحَمَلَهُ أَصْحَابُهُ، فَاسْتَنْقَذُوهُ ).

حملوه بعيدا .. وعندئذ تفطّنوا إلى قوّة تلك الضّربة النبويّة المميتة.. ثمّ تفطّنوا إلى أنّه بخير: ( فَقَالُوا: " مَا نَرَى بِكَ بَأْسًا " فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ اسْتَسْقَى اللهَ دَمِي، إِنِّي لأَجِدُ لَهَا مَا لَوْ كَانَ عَلَى مُضَرَ وَرَبِيعَةَ لَوَسِعَتْهُمْ ). ثمّ هلك مع من هلك من طواغيت قريش.

أمّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبعد أن زرع الرّمح في جسد أبيّ بن خلف، رجع إلى مكانه بالشّعب بالجبل، وكان متعبا، ويشير إلى سنّه المكسورة، ويشير إلى جثّة من قتله، فقال صلّى الله عليه وسلّم- كما في الصّحيحين -:

(( اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ - يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ -، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ )).

وفي رواية أخرى للبخاري عنْ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه أنّه صلّى الله عليه وسلّم  قالَ: (( اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فِي سَبِيلِ اللهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ))..

وفي رواية للإمام أحمد عنْ عبْدِ اللهِ بنِ مسعُودٍ رضي الله عنه أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:

(( أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا )). 




[1] حديث حسن، رواه النّسائي والطّبراني (8/304)، والحاكم (4/570)، قال الشيخ الألباني رحمه الله: "حسن من قوله: ( فَقُطِعَتْ أَصَابِعُهُ ) وما قبله يحتمل التّحسين، وهو على شرط مسلم "، ولا شكّ أنّ رواية مسلم عن أنس تشهد لأوّل الحديث. 

أخر تعديل في الاثنين 18 ربيع الأول 1440 هـ الموافق لـ: 26 نوفمبر 2018 13:45
عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي