- · الأولى: فها هو سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه - وكان إلى جانب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم - يرى شيئا أبيضَ لا يدري ما هو ؟
روى البخاري عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ:" رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ " !
إنّهما من الملائكة .. قال تعالى:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران]..
وعدٌ صادق {وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللهُ وَعْدَهُ..} عُلِّق بشرط {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} ..
- · الثّانية: بشارة أخرى .. فبينما هم بالصفّ تجاه المشركين إذ غشِيَهم ما غشِيَهم يومَ بدرٍ.. روى البخاري عنْ أنسٍ رضي الله عنه أنَّ أبَا طَلْحَةَ رضي الله عنه قالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ ". وهنا امتلأت نفوس المؤمنين بالأمن والطّمأنينة كما حدث يوم بدر:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْه} [الأنفال: من 11].
وهنا تذكّر من شهِدَ بدراً من المشركين أنّه رأى هذا من قبلُ ! فامتلأوا رعبا، إذ لا يُمكن أن يصيب النّعاسُ أحداً خائفاً..
ورفع أبو طلحة رضي الله عنه رأسَه فشاهد منظرا غريبا ..
روى التّرمذي عنْ أنَسٍ رضي الله عنه عنْ أبِي طلْحَةَ رضي الله عنه قالَ:" رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ وَمَا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا يَمِيدُ تَحْتَ حَجَفَتِهِ[1] مِنْ النُّعَاسِ ".
إلاّ أنّه كان في صفوف المؤمنين بعضُ المنافقين الّذين لم تكن لهم الجرأة الكافية للانسحاب مع عبد الله بن أبيّ .. فهؤلاء ظلّوا على خوفهم، ورأوا أنّ الموت أقربُ إليهم من شِراك نعلِهم، وأنزل الله آيات في فضحهم:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]..
- · الثّالثة: فبينما الصّمتُ والسّكونُ قد خيّما على ساحة القتال، وكان الجميع ينتظر الأمر بالنّزال .. والنّعاس يغشى المؤمنين من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والرّعبُ ضاربٌ جناحيه على من بقي من المنافقين، إذ قطع ذلك الصّمتَ صوتٌ انطلق من معسكر الوثنيّة:
فارسٌ جاهليّ عُرِف بالشّجاعة والإقدام اسمه سِباع بن عبد العُزّى .. يتقدّم متحدّيا: " هل من مبارز ؟!".
وندعُ الجواب إلى رجلٍ يهمّه ما حدث، وكان يحدّق بقلبه وبصره في المتقدّم من المسلمين .. ندع الجواب لوحشيّ بن حرب الّذي جاء من أجل مَهَمَّة تتعلّق بقتل هذا المتقدّم من جيش أهل الإيمان.. روى البخاري عن وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ قالَ:
"... لَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ - وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ - خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا أَنْ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، خَرَجَ سِبَاعٌ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ ؟
قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه، فَقَالَ:
يَا سِبَاعُ، يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ ! أَتُحَادُّ اللهَ وَرَسُولَهُ صلّى الله عليه وسلّم ؟
ولم يدُم القتال إلاّ لحظةً، حيثُ وصف وحشيٌّ القتالَ ببلاغة منقطعة النّظير، قَالَ:" ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ "..
لفظ جميل يعبّر عن سرعة وسهولة هلاك الشّجعان على يد حمزة رضي الله عنه.
وهنا سقط فارس أهل الشّرك، وارتفع سيف فارس أهل الإيمان، فازداد حماس المؤمنين ..
- · الرّابعة: قَتْل كبشِ الكتيبة .. وتحقّقت بذلك رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ..
فقد تقدّم حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدريّ، وكان من أشجع فرسان قريش، يسمّيه المسلمون كبش الكتيبة، خرج من صفّ المشركين على جمل، يدعو إلى المبارزة، فأحجم عنه النّاس لفرط شجاعته، ولكن ...
تقدّم له حواريّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الزّبير بن العوّام رضي الله عنه .. ولم يمهله، بل وثب عليه وثبة اللّيث الهصور، حتّى صار معه على جمله، ثمّ اقتحم به الأرض، فألقاه عنه وذبحه بسيفه ..
ورأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك، ورآه المسلمون، فكبّر وكبّروا ..
وكان هذا أوّل وقود الحرب .. واندلعت حينئذ المعركة ..