وهذا ما حضرَ الخاطرَ في ذلك المقام:
1- مَـعَـالِـمُ الْهَـزِيـمَـة:
ابتدأت قصّةُ طالوتَ بذكر أسوأِ أحوالِ بني إسرائيلَ من الذلّة والمهانة، لمّا سلّط الله عليهم عدوَّهم، فهتكَ سِترَهم، واستباح ديارَهم، واسترقّ ضَعَفَتَهم، وما كان من توجُّهِهم إلى نبيِّهم يسألونه لَمَّ الشّتات، والاجتماع على ملِكٍ يقاتلون تحت رايته:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. فالمطلبُ واحدٌ، وهو رفعُ الذِّلّة، والقتالُ في سبيل الله، إلاّ أنّ نبيَّهم بما آتاه الله من علمٍ، تفرَّسَ فيهم معالِمَ الخِذلان والهزيمة الّتي لا ترتفع أعلامُ النّصر معها، فابتدأهم من الدّاء يتتبّعُ مواضِعَه، لتنْزِل صحّة النّصر على عافية الدّين، كما تنْزِل صحّة الطّعام على عافية البدن، وغير ذلك لا يزيد المرض إلا استشراءً.
* المعلم الأول: الحَمِيَّة الكاذبة.
يقول ربّنا سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246].
إنّ أعظمَ معالِمِ الهزيمة في معركة الإيمان والكفر: معلَمُ الحمِيَّة الكاذبة؛ لأنّها ناتجةٌ عن ضَعف المعرفة بالدّاء، وإنّما هي فعلُ ساعة حمل عليها هياج اللّحظة، لا يُسنِدُها إيمانٌ بمبدأٍ ولا استمساكٌ بمنهجٍ، فما هي إلاّ أن تذهبَ في صُراخٍ وعَويلٍ وحَشْدٍ على غير هدى، كانتفاخ الورم يحسبه الجاهل صحّةً وكمالا. ومكمنُ خطر الحميّة الكاذبة أنّها تُكذِّبُ أصحابَها ساعة اللِّقاء ولحظة الحَسْم، فترتدُّ النّفوس على أعقابها إذا عاينت أهوالَ المحنة، فعلمت أنّ ما كانت عليه: جعجعةٌ لا طَحْن فيها، وذلك ما كان من شأن أكثر أصحاب طالوت، فإنّ الله وصفهم بالتولِّي والنُّكُول عن القتال، وقلّةِ الصّبر على مغارم الجهاد:{تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ}، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ}.
* المعلم الثاني: الخيـانـة.
قال تعالى:{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، فمن لم يُوطِّنْ النّفسَ على أداءِ الأمانة والوفاءِ بالعهد، وصِدقِ الوَعْد في مواطن البَأْس، استسْهلَ الخيانةَ والغدْرَ، ولم يَعظُمْ في نفسه ما عاقد عليه من المصابرة والمرابطة، وأمثالُ هؤلاء في ساعة الحسم أعْدَى من العدوّ، كما كان شأنُ عبدِ الله بنِ أُبَيِّ ابنِ سَلُولٍ رأسِ النِّفاق يومَ أُحُدٍ؛ فإنّه لمّا أراد شَقَّ الكلمة ارتدّ عن القتال بمن معه من عُصبة المنافقين، وكان موقفاً شديداً على المسلمين، لولا أن الله تعالى ثبّتَهم على الحقّ، وهَوَّن عليهم نقص العدد.
* المعلم الثالث: التّنـازع.
قال تعالى:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة من: 247]، فجعلوا مبدأَ أمرِهم هَواناً للقوّة، وفَتًّا في العَضُد؛ إذ تنازعوا الأمر، وتقارعوا على السّلطان، فمن كان قلبُه سليماً من العامّة أُشرِب في ذلك المقام حِسَّ الانقسام، وقد حذّرنا ربّنا سبحانه ذلك فقال:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال من:46]، وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران من:103]، وبيّن الله وبيلَ مآلِ التّنازع فقال:{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، فكان الحرصُ على شرفِ الملك، وتَقَصُّدُ مقام الرّياسة سبباً في ما كانوا عليه من سوءِ الحال، وضعفِ القوّة قبل اجتماع الكلمة.
* المعلم الرابع: الاعتراض على الشريعة.
قال تعالى:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}، فلم يكن تمليكُ طالوتَ عليهم عنْ رأيِ بَشَرٍ، ولا مشورةِ جماعةٍ، فيسوغَ الاعتراضُ عليه بوجهٍ محتمَل، وإنّما كان عن أمرِ الله عزّ وجلّ، فقابلوه بالاعتراض والردّ، وحاجُّوا أمرَ الله بالمعايير المحدثة والآراء الفاسدة، وهي بدعةُ إبليسَ الأولى الّتي منها كان مبدأُ المحنةِ الإنسانيّة؛ إذ اعترض على أمر الله بالسّجود لآدم، فقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف من:12 وص من:76]، وهؤلاء قالوا:{وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ}.
* المعلم الخامس: الكبر والحسد.
قال تعالى:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ}، فجزموا بالأحَقِّية من غيرِ علمٍ موثوقٍ، ولا دليلٍ مقبولٍ، بل بمجرّد الكِبْر المتولِّد عن حسدِهم طالوتَ وما سيق إليه، والله تعالى يقول في كتابه:{فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النّجم من:32]، وأقلُّ ما في الحسدِ: الاعتراضُ على حكمةِ الخالق سبحانه في تدبير شؤونِ خلقِه؛ إذ قضَى المعترضُ بأنّ الحقَّ والعدلَ يقتضي أن يُساقَ إليه ما ساقته تدابيرُ الحكمة الربّانيّة إلى غيره. فمن معالم الهزيمة: التّحاسد بين المؤمنين، في قليل العطاء وكثيره، فإنّ فيه فسادَ الدّين وفسادَ الدّنيا.
* المعلم السادس: فساد المعايير.
قال تعالى: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ}، فقاسُوا المسألةَ بمعيارٍ فاسدٍ يقتضي سياقةَ الشّرف إلى الأغنى ! فكان الغنى عندهم معقِدَ الجاه والسّلطان والتّقديم بإطلاق، فبيّن لهم نبيُّهم أنَّ السّعةَ في المال عونٌ على الحقّ ما كان الحقُّ قائما في النّفوس؛ فإنْ لم يكن، فلا عبرة بها تبعاً ولا استقلالاً؛ ولذلك لمّا ذكر لهم المعيارَ الربّانِيّ في التّقديم لم يَجْرِ فيه للمالِ ذكرٌ بوجه، بل قال تعالى:{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة من:247].
* المعلم السابع: قلَّةُ الصّبر.
قال تعالى:{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ}، وذلك لمّا امتحنهم اللهُ بالإمساك عن الشُّرب مع حضور الماء ابتلاءً لصبرِهم عن موادّ الدّنيا وأسبابِ الحسّ، إلاّ بالمقدار المأذون فيه، وإنّما أذن لهم في الغَرفة ليعلم أن من حنكة القائد أن يبني التخطيط على قلّة الموارد؛ لأنّه إن بناه على سعتها فقلَّتْ لسببٍ ما، فسد عليه تدبيرُه، وانتقض عليه أمرُه، وأمّا إن بناها على القلّة فاتّسعت، لَمْ تزِدْه سعتُها إلاّ قوّةً، فلمّا لم يصبروا على العطش مع الأمن، كان أحرى ألاّ يصبروا عليه مع جهد القتال، وكان أحرى بأمثال هؤلاء ألا يزيدوا عصابة الإيمان إلا خبالاً بالانتحاب على الجوع والعطش ساعة الحسم.
فهذه معـالـمٌ للهـزيـمـة جرى التّنبيه عليها في ثنايا القصّة بألطفِ طريقٍ؛ ليتبصّر فيها المسلمون فيجتنبوها في سبيل القيام بالأمة من نكستها، وقرن ربُّنا سبحانه وتعالى بها أسباب النّصر عن طريق المقابلة والمعاوضة، وهذا بيانها:
2- أَعْـلاَمُ النّـصْـرِ.
بيّن ربّنا سبحانه وتعالى في سياق هذه القصّة العظيمة شِرعتَه لأهل طاعته في طريق النّصر، ونصب لها أعلاماً ومناراتٍ يَهتدِي بها سالكو سُبُلِ الجهاد في سبيله، وهذا بيانها:
* العلم الأول: تشخيص الداء.
قال تعالى:{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا}، فالقائد الحقيقيّ لا يكون مَقُودا بمشاعرِ أتباعه، مغترّا بمظاهرات رعيَّتِه، بل ينبغي عليه أن يكونَ على درايةٍ بحالِ الرّعيَّةِ تحقيقاً للشّرع ظاهرا وباطنا، وقدرتِها على المجابهة المباشِرة للعدوّ، من جهة تحقيقها للعُدّة الإيمانيّة والمادّية، وأمّا خوضُ الحروب المصيريّة من غير تصوُّرٍ صحيحٍ لموازينِ القوّة الدّينيّة والنّفسيّة والمادّيّة، فهو من الإلقاء باليد إلى التّهلُكة، والتّغرير بالمسلمين.
* العلم الثاني: التسليم للأقضية الإلهية الشرعية والقدرية.
قال تعالى:{قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}، فالمؤمن مطالَبٌ بأن يسلِّم الأمرَ إلى الله تعالى شرعا وقدراً، وذلك أصل عَقْد توحيده، ومعنى إسلامه، قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص من 68]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب من:36]، وقال تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف من:54]، وعلى قدر ما يجرى للمسلم من التسلم لأقضية المولى سبحانه، ويرى ربه منه ما يرضيه عنه، تفيض عليه الرحمات والبركات، وتتنزل أسباب النصر، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران من:126].
* العلم الثالث: تقويم المعايير وتصحيح المفاهيم.
قال تعالى:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فالقائد ينبغي ألاَّ يغفُل عن تصحيح المفاهيم لرعِيَّتِه في كلّ محطّات الطّريق، سواءٌ كانت عَقَديّةً أو منهجِيَّةً أو سياسيّةً أو حَربيّةً؛ لأنّ الوعيَ في الرعيّةِ من أسباب القوّة الجماعيّة؛ ولذلك بادر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تصحيح عَقْد توحيد أصحابه كما في حديث أبي واقدٍ اللّيثِيّ رضي الله عنه فقال: (( إِنْ كِدْتُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلَ أَصْحَابِ مُوسَى لِمُوسَى: اِجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ !)). وقد بيّن لهم نبيُّهم أنّ أسبابَ التّمليك:
منها ما يرجع إلى الاصطفاء الّذي هو من علْمِ الله تعالى، فربّما بيّن الحكمة فيه وربّما أخفاها، والإيمانُ بها لازمٌ بكلّ حال، ولذلك ختم الآية بقوله:{وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}.
ومنها ما يرجع إلى الأسباب الصّحيحة الّتي هي العلمُ بالحقّ، والقوّة على الحقّ، وهما معنى البسْطة في العلم والجسم، وقد قال تعالى في شأن ذي القرنين:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] أي: علما، فكان التّمكينُ له في الأرضِ هو القوّة على الحقّ، وما أوتِيَه من الأسباب قسمان:
أ) علمُ الشّريعة الّذي يُميِّز به الخبيثَ من الطيّبِ:{ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)} [الكهف].
ب) وعلمُ الحديد الّذي يقْوَى به على الحقّ:{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} [الكهف].
* العلم الرّابع: ميراث النبوة.
قال تعالى:{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} [البقرة من:248]، وكان هذا التّابوتُ - كما جاء في الآثار - قد سُلِبه بنو إسرائيل في حروب بابل، وبه بقايا ألواح التّوراة الّتي أنزلها الله على موسى عليه السّلام، فجعل الله أمارةَ تمليكِ طالوتَ عليهم أن يكون أوّلَ بشاراته وبركاته عليهم، أي: يُرَدَّ عليهم - كرامةً له -تابوتُ العهد الّذي هو ميراثُهم من أنبيائهم الأوّلين، فنبّه الله تعالى هذه الأمّةَ المحمّديّةَ من طريق الإشارة إلى أنّ أُولَى بشائرِ النّصر لهذه الأمّة: الاستمساك بميراث النبوّة المحمّديّة، وهو الكتاب المبين والسنّة المشرّفة، وأنّ العودة إلى هذا الميراث أوّلُ النّصر في الزّمن الآخر كما كان عَلَمُ النّصر في الزّمن الأوّل:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمّد من:7]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال من:46].
* العلم الخامس: التربية الإيمانية المستمرة.
قال تعالى:{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة من:249]، فهذا الاختبار من طالوت للجنود يتضمّن محنتين:
محنةَ الصّبر؛ إذ امتحنهم بالإمساك عن الماء مع العطش والحرّ وطول السفر، وهو امتحان البدن.
ومحنة الانقياد؛ إذ كان ذلك ابتلاءً من الله تعالى:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد من:25]، وشواهدُ الامتحان تفضحُ أهل الادّعاء بكلّ حال، وهم الّذين استنكروا الشكّ في هممهم في أوّل القصّة، فقالوا:{وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة من:246].
* العلم السّادس: إنّ الذِّكرى تنفعُ المؤمنين.
قال تعالى:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة من:249]. فهذه نزغة الشيطان في الّذين {آمَنُوا مَعَهُ} وهي حظ الشيطان من ابن آدم، إلاّ أنّ فضلَ المؤمنِ فيها على الكافر أنّها لا تستقرّ بقلبه، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وإنّما يصرِفُها العلمُ الصّحيح الّذي به التحقُّقُ بمعالم التّوحيد:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة من:249]، وفي مثل هذه المقامات تظهر فضيلة العالم على غيره في استحضار ما به تثبت النفوس ويربط على القلوب.
* العلم السّابع: وما النّصرُ إلاّ من عندِ الله.
قال تعالى:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة من:250-251].
لمّا بلغت الأقدامُ مواضعَ الحقائق، وكان غيبُ الموت عِياناً في النّفوس، واجتنبَ المؤمنون معالِمَ الهزيمة، وأعدّوا ما استطاعوا من أعلام النّصر - وإن قَلَّت في موازين البشر -، توجّهوا بسلاح أهل الإيمان الّذي لا يُشركهم فيه غيرهم، وهو: الدّعـاء والضّراعة إلى الجبار سبحانه: أن يُثبِّتَ قلوبَهم ويُفرِغَ عليهم صبرا، وينصرَهم، فما كانت إلاّ ساعة المصابرة {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، حتّى دارت الدّائرة على عسكر الشِّرك، ورَزَق الله أولياءَه الحُسْنَيَيْن: شهادةً لمن اختاره لجواره، ومدّة لمن أعَدَّ لنحورِ أعدائه، ولا حول ولا قوّة إلاّ به.
هذا، والحمد لله ربّ العالمين، وصلواته على محمّدٍ وآله وصحبه أجمعين.