كيف لا ؟ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ)).
وجاء عن طاوس عن ابن عبّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنّه قال: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُفْرُ مَنْ مَضَى إِلاَّ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ !.
وعن سعيد بن المسيّب قال: مَا أَيِسَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَحَدٍ قَطْ إِلاَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ.
أيها الإخوة الأعزّاء ! هذه الفتنة المدلهمّة، والخطر العظيم، له مداخل ووسائل يلج بها الشّيطان على الإنسان، وأوّل مداخل هذه الفتنة، هو النّظر.
محنة أذهلت العقول، وصهرت أفئدة الرّجال الفحول، وتلاشى معها إيمان كثير من المسلمين، وصرفت عن البرّ والتّقوى قلوبَ آخرين كثيرين ...
جاء في الصّحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ)).
لذلك كان النّظر بريدَ الزنا، {قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] .. وصدق قول الشّاعر:
كل الحــوادث مبدأها مــن النّظــر ومعظم النّار من مستصغر الشّـرر
كـم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بــلا قـــوس ولا وتـــر
والعبــد مــا دام ذا عيــــن يقلّبـها في أعين الغير موقوف على خطر
يسر ناظـــره مــــا ضـــرّ خاطــــره لا مرحــــبا بســـرور عـــاد بالضــرر
أيّها الإخوة ! لمّا كان النّظر المحرّم بهذه الدّرجة من الخطورة، وهذه المنزلة من الغواية، كان لغض البصر فوائد كثيرة، يسّر الله لبيانها العالِمَ الربّانيّ طبيب القلوب شّيخ الإسلام ابن قيّم الجوزية، وها نحن نذكر نُتَفاً من تلك الفوائد التي صاغها يراعُه:
- أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة.
فإنّ من أطلق نظره دامت حسرته، فأضرُّ شيء على القلب إرسال البصر، فإنّه يُرِيه ما يشتدّ طلبه ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.
قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفـك رائـداً لقلبك يومـــاً أتعبتك المناظر
رأيت الـذي لا كله أنت قادر عليـ ـه ولا عـن بعضـه أنت صــــابر
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم يحرقه كله أحرقت بعضه، والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه، وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه.
- الفائدة الثانية: أنّه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أنّ إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه، ولهذا - والله أعلم - ذكر الله سبحانه آية النّور في قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَـاواتِ وَالأرْضِ} [النور:35]، عقيب قوله:{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ}[النور:30].
- الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة فإنّها من النّور وثمراته، وإذا استنار القلب صحّت الفراسة، لأنّه يصير بمنزلة المرآة المجلوّة، تظهر فيها المعلومات كما هي، والنّظر بمنزلة التنفّس فيها، فإذا أطلق العبد نظرة تنفّست نفسه الصّعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها، كما قيل:
مرآة قلبك لا تريك صلاحه والنفس فيها دائماً تتنفّس
وقال شجاع الكرماني: ( مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ المُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنِ المَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَأَكَلَ مِنَ الحَلاَلِ لَمْ تُخْطِىءْ فِرَاسَتُهُ ). وكان شجاع لا تخطىء له فراسة.
والله سبحانه وتعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنسه، فمن غضّ بصره عن المحارم عوّضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته، فلما حبس بصره لله أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم حبس الله عنه بصيرته.
- الفائدة الرابعة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته.
فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجّة، ولهذا يوجد في المتّبع لهواه من ذلّ القلب وضعفه ومهانة النّفس وحقارتها ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه، قال الحسن:" إِنَّهُمْ وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمْ البِغَالُ وَطَقْطَقَتْ بِهِمْ البَرَاذِينُ، فَإِنَّ ذُلَّ المَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ ".
وبهذه المناسبة، فإنّي أقول عرضاً: إنّ اتّهام قنواتنا الإعلامية بنشر الرّذيلة، وبثّ الفساد، يريح النّفس، ويسلّي القلب، لأنّ فيه إلقاءً للتّبعة على الآخرين، ويُنسِي الفردَ منّا حقيقة الأمر، ومواجهة الصراحة، فإذا كان هؤلاء يصنعون الفساد في هذه القنوات الفضائية، فما الّذي يدعونا لهذا الفساد بجلب هذه القنوات إلى منازلنا، ثم يجبرنا على مشاهدتها ؟!
يا راميا بسهــــام اللحــظ مجتهدا أنت القتـيــل بمـــا ترمي فــلا تصب
وباعث الطــرف يرتاد الشفـــاء لـه توقــه فـــــــإنـــه يأتــيـــك بالعطــــب
ترجو الشّفـاء بأحداق بها مــــرض فهل سـمعت ببـرء جاء من عطــــب
وبائعا طيب عيش ما لـــه خــطــر بطيف عيش من الأيـــام منتـهــــب
غُبِنْتَ والله غـبنا فاحشا فلو اسـ ـترجعـت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
الفائدة الخامسة: غض البصر يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة الحاصلة بالنّظر.
وذلك لقهره عدوّه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه.
وأيضاً فإنّه لما كفّ لذّته، وحبس شهوته لله، وفيها مسرة نفسه الأمّارة بالسوء، أعاضه الله سبحانه مسرّة ولذة أكمل منها كما قال بعضهم: ( وَاللهِ لَلَذَّةُ العِفَّةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ ).
الفائدة السادسة: أنّه يسد عنه باباً من أبواب جهنم.
فقد روى الطّبراني عن معاوية بن حيدة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( ثَلاَثَةُ أَعْيُنٍ لاَ تَرَى النَّارَ: عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ كَفَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ )).
فاللهَ نسأل أن يوفّقنا لطاعته، والأخذ بسبيل مرضاته، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.