* ومنه استغفار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقب صلاته، فقد روى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا.
* ومرّ معنا كيف جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم آخرَ المجلس استغفارا، وعدّه كفّارةً للمجلس من اللّغط، وطابعاً لمجالس الذّكر.
ولنا في هذا التّبويب وقفتان:
أوّلا: معنى الاستغفار: صيغة الاستفعال تفيد الطّلب، فمعنى الاستغفار: طلب المغفرة.
وأصل الكلمة من ( الغَفْر )، وهو تغطية الشّيء بما يصونه، ومنه ( المِغْفَرُ )، وهو ما يوضع على الرّأس اتّقاء ضربات السّيف ونحوه، وكذلك الاستغفار، هو أن يطلب العبد من ربّه أن يمحو عنه ذنبه ليقيه عذابه.
والاستغفار أوّل درجات التّوبة إلى الله تعالى، لأنّ التّوبة تقتضي النّدم على الفعل، والإقلاع عنه، والعزم على عدم الرّجوع إليه، وردّ المظالم إن كانت، وطلب البراءة من صاحبها. فكلّ توبة تعني الاستغفار، والاستغفار لا يعني التّوبة.
ثانيا: فضل الاستغفار: فقد كثر في الكتاب والسنّة الأمر بالاستغفار، وبيان فضائله، وإليك بعضَها:
أوّلا: أنّه من أوسع أودية الرّزق والفضل.
شكا رجلٌ إلى الحسن البصريّ رحمه الله الجَدْبَ والقحْطَ، فقال:" استغفِرْ الله ". فشكا إليه آخر الفقرَ، فقال:" استغفر الله ". وشكا إليه ثالثٌ جفافَ بستانِه، فقال:" اِستغفرْ اللهَ ". ورابعٌ شكا إليه عُدْم الولد، فقال:" استغفرْ الله ". فلمّا سئل، تلا عليهم قولَ الله تعالى:{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) } [نوح].
ومثل هذه الآية قوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه} [هود: من 3].
ثانيا: أنّه أمان من عذاب الله تعالى.
قال عزّ وجلّ:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال:33]. فذكر تعالى سببين في إمهالِه الكفرةَ وعدمِ تعذيبهم:
أوّلهما: وجودُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين ظهرانيهم.
والآخر: استغفارُهم؛ فقد كانوا يقولون:" غفرانك "، أو استغفار من بقي من المؤمنين بينهم. قال عليّ رضي الله عنه:" ثنتان يؤمّنان من العذاب، قد رُفِعَتْ إحداهما، وبقيت الثّانية "، وتلا عليهم الآيةَ، ثمّ قال: العجبُ ممّن يهلِكُ ومعه النّجاة !
وكان رضي الله عنه يقول:" ما ألهمَ الله عبْدا الاستغفار وهو يريد أن يُعذّبه ".
ثالثا: أنّه من أحبّ أعمال العباد إلى الله تعالى:
ذلك لأنّها المغفرة من أحبّ أفعال الله إليه؛ لأنّ المغفرة والرّحمة والعفو صفاتٌ ثابتة له، فمن استغفره فقد عرفه.
ألا ترى إلى الحديث الّذي رواه مسلم عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ )).
قال الطّيبي رحمه الله (6/1840):
" ليس الحديثُ تسليةً للمنهمكين في الذّنوب كما يتوهّمه أهل الغرّة بالله، فإنّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنّما بُعِثوا ليردعوا النّاس عن غشيان الذّنوب، بل بيانٌ لعفو الله تعالى وتجاوزِه عن المذنبين ليرغبوا في التّوبة.
والمعنى المراد من الحديث: هو أنّ الله كما أحبّ أن يُعطيَ المحسنين، أحبّ أن يتجاوز عن المسيئين، وقد دلّ على ذلك غيرُ واحدٍ من أسمائه: كالغفّار، والحليم، والتوّاب، والعفوّ، أي: لو كنتم مجبولين على ما جُبِلت عليه الملائكة لجاء الله بقوم تقع منهم الذّنوب، فيتجلّى عليهم بتلك الصّفات على مقتضى الحكمة، فإنّ الغفّار يستدعي مغفورا - وهو الذّنب - ومغفورا له وهو العبد، كما أنّ الرزّاقَ يستدعي رزقا ومرزوقا " اهـ.