ومستندهم في ذلك أحاديث وآثار، منها:
- الأوّل:
ما أخرجه أبو عُبيد في "فضائل القرآن" (240) و(366)، والطّبراني (12/215) عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:" نَزَلَتْ سُورَةُ الأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلاً جُمْلَةً، حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ".
وفي السّند علّتان:
الأولى: ضعفُ عليّ بن زيد بن جدعان.
الثّانية: يوسف بن مهران، ليّن الحديث.
- الثّاني:
ما أخرجه الطّبراني (24/178) عنْ أسماءَ بنتِ يزيدَ رضي الله عنها قالتْ:" نزَلَتِ الأَنْعامُ علَى النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم جُمْلَةً وَاحِدَةً، وأنَا آخِذَةٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ كَانَتْ مِنْ ثِقَلِهَا لَتَكْسِرُ عَظْمَ النَّاقَةِ ".
وهذا مسلسل بالعلل:
الأولى: حفصُ بنُ عُمَرَ بنُ الصبّاحِ الرّقِّيُّ، فيه ضعف.
والثّانية: قبيصة بن عقبة تكلّموا في روايته عن سفيان الثّوري، وهذا منها.
والثّالثة: ليث بن أبي سليم، وضعفه مشهور.
والرّابعة: شهرُ بنُ حوشبٍ: مختلف فيه؛ لأوهام وقعت منه.
- الثّالث:
ما رواه الطّبرانيّ في "الصّغير" (1/145) عن ابنِ عمَرَ رضي الله عنهما قال: قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( نَزَلَتْ عَلَيَّ سورَةُ الأنْعَامِ جُمْلَةً واحِدَةً يُشَيِّعُها سبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ".
وفيه يوسُفُ بنُ عطيّة الصفّار، وهو متروك كما قال الحافظ في "التّقريب" (ص 611).
- الرّابع:
ما أخرجه البيهقي في "الشّعب" (4/79) والطبراني عن أنَسٍ رضي الله عنه مرفوعاً: (( نَزَلَتْ سورَةُ الأنعَامِ وَمَعَهَا موْكِبٌ منَ الملاَئِكَةِ يسُدُّ مَا بَيْنَ الخَافِقَيْنِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّقْدِيسِ والتَّسْبِيحِ والأَرْضُ تَرْتَجُّ )).
وفي السّند علّتان:
الأولى: أحمد بن محمّد السّالميّ ضعيف.
الثّانية: شيخ الطّبرانيّ: محمد بن عبد الله بن عرس، قال الهيثمي في "مجمع الزّوائد":" لم أعرفه ".
- الخامس:
ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/344)، والبيهقيّ في "الشّعب" (4/78) من حديث جابِرٍ رضي الله عنهما قال: لمّا نزلَت سورَةُ الأنعَامِ سبَّحَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ثُمّ قالَ: (( لقَدْ شَيَّعَ هذِهِ السّورَةَ منَ الملائِكَةِ مَا سَدَّ الأُفُقَ )).
وصحّحه الحاكم على شرط مسلم، وتعقّبه الذّهبيّ بأنّ فيه انقطاعا، وقال:" أظنّ هذا موضوعا ".
- السّادس:
ما أخرجه البيهقيّ في "الشّعب" (4/80) عن عليٍّ رضي الله عنه قال:" أُنزِلَ القرآنُ خمساً خمساً، ومن حفظَه هكذا لم ينْسَه، إلاّ سورةَ الأنعامِ؛ فإنّهَا نزلتْ جملَةً في ألفٍ يشيِّعُها من كلّ سماءٍ سبعونَ ملكاً ".
حكم الذّهبيّ بوضعه في "الميزان" (1/308)، ووافقه الحافظ ابن حجر في "اللّسان" (2/13).
* أمّا قول السّيوطي رحمه الله:" فهذه شواهدُ يقوّي بعضها بعضا "، ففيه نظر بيّن من وجهين:
1- أنّ هذه الأحاديث والآثار كلّها ضعيفة، قال ابن الصّلاح رحمه الله في "فتاويه" (249):" لم نَرَ له إسنادا صحيحا ".
ولمّا كان ضعفُها شديدا، فإنّه لا يمكن أن ترتقي إلى الحسن كما هو مقرّر في علم الحديث.
2- أنّ السّنة الماضية في نزول القرآن أن يكون مفرّقا إلاّ لدليل، قال تعالى:{وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء].
وقال عزّ وجلّ:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)}[الفرقان].
ولنزول القرآن مفرّقا حكم عظيمة، لا يمكن نقضها بمجرّد أحاديث واهية.
نعم، يمكن تصوّر ذلك في نوعين من السّور:
الأوّل: في المفصّل وقصار السّور.
فقد روى الحاكم في "المستدرك" (2/275) عن عبدِ اللهِ بنِ مسعُودٍ رضي الله عنه قال:
" كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي غَارٍ، فَنَزَلَتْ:{وَالمُرْسَلاَتِ عُرْفاً} فأخذتُهَا من فِيهِ، وإنَّ فاهُ لرَطْبٌ بهَا، فلاَ أدْرِي بأَيِّهَا خَتَمَ:{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أَوْ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ}".
الثّاني: ما لا يحتمل إلاّ نزولَه جملةً واحدةً ولو كان من الطّوال.
وخير مثال لديّ: سورة يوسف عليه السّلام.
أمّا أن يقال ذلك في سورةٍ من السّبع الطّوال، ودون دليل لا من الأثر ولا من النّظر، فبعيد جدّا.
والله تعالى أعلم.