وقال البيهقي في "الاعتقاد" (ص68):" المحيط هو الّذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات ".
ونلاحظ أنّ هذه الصّفة قد قصروها على القدرة والسّمع والبصر، وغيرهم عمّم وهو الأولى.
فقد قال السّعدي في "تفسيره":
" وهو الّذي أحاط بكلّ شيء علما، وقدرة، ورحمة، وقهرا، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المُبْصَرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفدت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسّماوات، وقهر بعزّته كلّ مخلوق، ودانت له جميع الأشياء ".
* ثمرات الإيمان بهذا الاسم:
1- لا شكّ أنّ هذا الاسم يؤكّد ثبوت الكمال المطلق لله تعالى في: العلم، والسّمع، والبصر، والقدرة، والرّحمة، فإذا استحضر العبد معناه الشّامل تحصّل لديه ما يحصّله من فهم معاني الأسماء الأخر.
2- إنّ هذا الاسم الكريم يربّي في قلب العبد من المهابة لله ما لا يخفى، ففيه التّرغيب في التوكّل عليه والوثوق به، والتّرهيب من عصيان أمره، والغفلة عن ذكره.
ألا ترى أنّ الله تعالى غالبا ما يختم آيات الوعد والوعيد بهذا الاسم الكريم ؟
قال عزّ وجلّ بعد ذكر العصاة والمذنبين:{إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: من الآية120].
وقال مؤنّسا أولياءه:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: من الآية60] وتفاسير السّلف لهذه الآية كلّها في هذا المعنى.
قال ابن عبّاس رضي الله عنه: النّاس هنا أهل مكّة، وإحاطته بهم إهلاكُهُ إيّاهم.
أي: إنّ الله سيهلكهم، وإنّما ذكره الله بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. وعنى بهذا الإهلاك الموعود: ما جرى يوم بدر ويوم الفتح.
وقال مجاهد وابن أبي نجيح: معنى أحاط بالنّاس: أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
وقال الحسن وعروة وقتادة: المراد عصمة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم من النّاس أن يقتلوه، حتّى يبلِّغ رسالة ربّه، أي: وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التّبليغ، فبلِّغ، فإنّا نعصمك منهم، فقدرتنا محيطة بهم.
3- وعلى العبد أن يستيقن أنّه بين يدي الله، يتصرّف في قلبه، وفي جسده كما شاء بما شاء، فعليه أن يُحسن أقواله وأفعاله، فهو به محيط، وأنّه لا مفرّ منه طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.
19-الواسـع عزّ وجلّ.
اسم من أسمائه تبارك وتعالى، ويوصف بأنّه: ( واسع ) و( مُوسِع ).
قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية115] وتكرّرت مرارا.
ويوصف بأنّه موسٍع لقوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذّاريات:47]، ولما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ:- في حديث أوّل من تُسعّر بهم النّار -:
(( وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا )).
ولما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَسَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ ؟ فَقَالَ: (( أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ )) ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: ( إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا ).
ومثله ما جاء في دعاء الجنازة، روى مسلم عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ )).
وقد عرّف العلماء صفة السّعة وشرحوا اسم الواسع بعبارات مختلفة.
- فقال قوّام السنّة الأصبهانيّ في "الحجّة" (1/150):" الواسع: وسعت رحمته الخلق أجمعين، وقيل: وسِع رزقه الخلق أجمعين، لا تجد أحدا إلاّ وهو يأكل رزقه ".
وقال البيهقيّ رحمه الله في "الاعتقاد" (ص60):" الواسع هو العالم، فيرجع معناه إلى صفة العلم، وقيل الغنيّ الّذي وسِع غِناه مفاقر الخلق ".
والأولى أن يعمّم معنى السّعة.
- قال ابن قتيبة رحمه الله في "تفسير غريب القرآن" (ص15):" ومن صفاته "الواسع" وهو الغنيّ، والسّعة الغِنى ".
فيكون غنيّ الرّحمة، والقدرة، والمغفرة، والعلم، وغير ذلك من نعوت الجلال وصفات الكمال.
- وقال الرّاغب في "المفردات":" هي عبارة عن سعة قدرته، وعلمه، ورحمته، وأفضاله ".
وقال الشّيخ السّعدي في "تفسيره" (5/ 305):
" الواسع الصّفات والنّعوت، ومتعلّقاتها، حيث لا يُحصي أحدٌ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه: واسع العظمة والسّلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم ".
ويدلّ على هذا العموم:
قوله تعالى في العلم:{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: من الآية80]، و:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طـه:98].
وقوله تعالى في الرّحمة:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: من الآية156]، و:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النّجم: من الآية32].
وقوله في سعة رزقه:{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية247]، و:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
وقوله في بيان سعته سبحانه بمعنى إحاطته بالكون:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115].
وإذا علم المؤمن معنى هذا الاسم أدرك السرّ في سبب اقتران الواسع بالعليم، وذلك لأسباب كثيرة منها:
الأوّل: أنّ سعته سبحانه ليست كسعة الخلق، الّذين يذهلون ويغفلون لكثرة ممتلكاتهم، فهو مع سعة ملكه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء.
الثّاني: أنّ الله إذا وعد العبد شيئا كمضاعفته الأجور، والرّزق ينبغي له أن لا يستبعد ذلك، ولا يضيِّق صدره، ومع ذلك فهو يعلم من هو أجدر بهذه المضاعفة، فيضع فضله مواضعه لحكمة بالغة له سبحانه.
الثّالث: أنّ على العبد أن لا يُضيّق رحمة الله ومغفرته لعباده، لأنّه لا يعلم بِمَ سيُختم لهم، والله عليم بذلك، وإلاّ وقع في شرّ التألّي عليه سبحانه.
روى مسلم عَنْ جُنْدَبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حَدَّثَ:
(( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ ! وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ )).