هذا العمّ الّذي حنّ على هذا الصبيّ الحزين خلف سرير جدّه، ورقّ لحاله، فحمله إلى بيته، ورعاه كأنّه من صلبه، يُنسِيه وحدته ويُتمه بمعاملة تذوب رحمة وحنانا ..
وكان أبو طالب قليل المال كثير العِيال، ومع ذلك أكمل الله به نعمته على نبيّه المخلّدة:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضّحى:6] ..
فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتولّى رعاية الغنم لأهل مكّة، لئلاّ يبقى عالة على عمّه.
وقد مرّ معنا الحديث الّذي رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ )) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ: (( نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ )).
وكان يأخذه معه إلى حيث ذهب، لا يفارقه أبدا ..
ثمّ جاء اليوم الّّذي همّ فيه أبو طالب أن يخرج في رَكْب تاجرا إلى الشّام، فهل سيأخذه معه ؟
لمّا تهيّأ العمّ للرّحيل ، وأجمع المسير، صبّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرقّ له، وقال: والله لأخرجنّ به، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا.
كان الموسم موسمَ صيف حارّ .. تحركت فيه الرّكاب نحو الشّام، وخرج أبو طالب في أشياخ من قريش..
وهناك حدث ما لم يكن في حسبان أحدٍ من الرّكب..
روى التّرمذي عن أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ:
( خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ، هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُ.
قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، جَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ، فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وقَالَ:
هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ ! هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ! يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ !
فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ ؟ فَقَالَ:
إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنْ الْعَقَبَةِ، لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ.
ثُمَّ رَجَعَ، فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ، قَالَ:
أَرْسِلُوا إِلَيْهِ !
فَأَقْبَلَ، وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ، وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ ! مَالَ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ الرُّومِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ:
- مَا جَاءَ بِكُمْ ؟
- قَالُوا: جِئْنَا، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ، بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا. فَقَالَ:
- هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ ؟ قَالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا. قَالَ:
- أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ رَدَّهُ ؟ قَالُوا: لَا !
قَالَ أبو موسى: فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ. قَالَ:
- أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ ! أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ. فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ ).
هذه قصّة بَحِّيرى(1) الرّاهب، ويقال إنّ اسمه جرجيس من عبد القيس.
موقف العلماء من هذه القصّة.
هذه القصّة صحّحها جمهور المحدّثين، وأنكرها الإمام الذّهبي رحمه الله في "ميزان الاعتدال"، و"تلخيص المستدرك"، و"تاريخ الإسلام"، وذلك بسبب زيادة في آخر الحديث وهي قوله: ( وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنْ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ ) !! قال الذّهبي: " وبلال لم يكن يومئذ خُلق، وأبو بكر كان صبيّا ".
والصّواب أنّها صحيحة، ويمكننا أن نجيب عن اعتراض الإمام الذّهبي بجوابين:
1- معارضته بتصحيح من صحّحه كالتّرمذي والحاكم وابن سيّد النّاس والجزري وابن كثير وابن حجر والسّيوطي، رحمهم الله أجمعين.
2- لا يلزم من خطأ النّاقل في جملة الحديث أن يكون الحديث كلّه منكرا أو موضوعا، لأنّ الوضع إنّما يثبت بكون الرّاوي وضّاعا كذّابا، وهذا منفيّ هنا قطعا.
العبر والعظات من قصّة بَحِّيرى الرّاهب:
1- تعتبر حادثة الرّاهب من أعظم دلائل نبوّته صلّى الله عليه وسلّم، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: من الآية17] وقال:{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:197] وقال:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]
سأل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عبد الله بن سلام وقد كان كتابيّا فأسلم:" أتعرف محمّدا كما تعرف ابنَك ؟ "
قال:" نعم، وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، أمّا ابني فلا أدري ما الّذي قد كان من أمّه ؟ ".
2- أنّه كما قال تعالى بحقّ:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56] وأنّ المؤمن الذي يريد الهداية لنفسه عليه أن يتبرّأ من الكبر، وما يسمّيه بالأنفة.
إذ نلحظ كيف أنّ أبا طالب سمع شهادة أهل الكتاب بنبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومع ذلك رضي بأن يبقى على دين آبائه، مع أنّه كان يُعدّ من حلماء القوم وعقلائهم ولكن:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39].
والله تعالى نسأل أن يرزقنا علما نافعا، ويقينا صادقا، وعملا متقبّلا.
(1) بَحِّيرى-بفتح الموحّدة وكسر الحاء المهملة وسكون المثنّاة التّحتية آخره راء مقصورة وقيل ممدودة- [نقلا عن "السّيرة النبويّة"]لابن هشام (ص191) بتحقيق إبراهيم الأبياري وآخرين.