- الأوّل: علموا أنّ الشّيطان الرّجيم لا يأمر فقط بانتهاك الحرمات، وارتكاب الموبقات، ولكنّه يأمر بتعدّي المباحات، وتجاوز المستحبّات .. وهو الّذي قطع عهدا على نفسه فقال:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: يأتيهم من جانب العبادات والصّالحات..
وقد ظفِر منهم بما طمع، قال الله عزّ وجلّ:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20].
- الثّاني: كانوا على علم تامّ بالسّنن الكونيّة، وأنّ ( معظم النّار من مستصغر الشّرر )..
فاستصغار المحدثات في باب العبادات أخطر مصايد الشّيطان، لذلك قال عزّ وجلّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.
خطوات بين الزّهد المشروع، والتصوّف الممنوع:
فبعد أن ظهرت طائفة العُبّاد والزهّاد في الأمّة، حدثت مرحلة انتقالية جديدة بين الزّهد المشروع والتصوّف الممنوع، حيث أصبح للزّهد وأحوال الزُهّاد وأقوالهم تصانيف خاصّة.
يقول ابن الجوزيّ رحمه الله في " تلبيس إبليس " (147):" ثمّ جاء أقوام فتكلّموا لهم في الجوع، والفقر، والوسواس، والخطرات، وصنّفوا في ذلك، مثل: الحارث المحاسبيّ. وجاء آخرون فهذّبوا مذهب التصوّف، وأفردوه بصفات ميّزوه بها ..."
- وعلى رأس هذه المرحلة مالك بن دينار رحمه الله (130 هـ)، الّذي بدأ يدعو إلى أمور لم تثبت عن الزهّاد السّابقين, بل انتشرت بحكم انتشار كتب الرّوم والهنود وغيرهم، الّذين اشتهر عُبّادهم بالانقطاع عن المباحات: كعزوفهم عن الزّواج، وأكل اللّحم، ونحو ذلك.
فكان مالك بن دينار يزهّد في الزّواج، ويدعو إلى تركه ! وكان يقول:" لا يبلغ الرّجل منزلة الصّديقين حتّى يترك زوجته كأنّها أرملة ! ويأوي إلى مزابل الكلاب !" [" سير أعلام النبلاء " (8/156)].
وكان يقول:" إنّه لتأتي عَلَيّ السنة لا آكل فيها لحماً، إلاّ في يوم الأضحى, فإنّي آكل من أضحيتي ".
وبدأت تظهر في كلماته عبارات تدلّ على التأثّر بما لدى الأمم السّابقة، فيقول: قرأت في بعض الكتب ... قرأت في التوراة ... وأوحى الله إلى نبيّ من الأنبياء ... وقرأت في الزّبور ... ويُروَى عن عيسى عليه السلام ... [انظر ترجمته في " حلية الأولياء " (2/357)].
- ثمّ ظهرت طائفة تتحدّث عن محبّة الله عزّ وجلّ بعبارات غير لائقة: كالعشق، والهيام، ونحو ذلك .. وحرّفوا معنى العبادة وأنّها ليست طمعا في الجنان ! ولا خوفا من النّيران ! ولكنّها حبٌّ وعِشقٌ للرّحمن !
ويرَون حبّ الأهل والأولاد نقصاً في محبّة الله عزّ وجلّ ! وعلى رأس هؤلاء عبد الواحد بن زيد (177هـ)، ورابعة العدويّة (185 هـ)، ونقلوا عنها أخبارا وحكايات، إن صحّت عنها صحّ اتّهام أبي داود رحمه الله لها بالزّندقة. [انظر: " البداية والنهاية " (10/186)].
- وظهر في كلماتهم التحزّب دون سائر المسلمين، مثل قولهم: ( طريقتنا )، و( مذهبنا )، و( علمنا ) ...الخ.
ظهور مصطلح التصوّف:
أوّل ما ظهر مصطلح التصوّف بالكوفة؛ وذلك بسبب قربها من بلاد فارس، ومن أجل التأثّر بالفلسفة اليونانيّة بعد عصر التّرجمة، وبسلوك الرّهبان من أهل الكتاب، ثمّ شاع التصوّف بعد ذلك بالبصرة، ثمّ إلى غيرها من البلدان.
واختلفوا في أوّل من لُقِّب بالصّوفي:
- فذكر ابن النّديم في " الفهرست "(ص 499) أنّ أوّل من لُقِّب به هو: جابر بن حيّان (ت: 199 هـ، وقيل: 208)، الخراسانيّ الأصل، وعاش بالكوفة. وقد تنازعه كلّ من الفلاسفة، والأطبّاء والشّيعة وجعلوه من أقرب أصحاب جعفر الصّادق، وغيرهم.
- وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه إلى أنّ أوّل من عُرف بالصّوفي هو أبو هاشم الكوفي الشّيعيّ ( ت150هـ أو 162هـ) ، وكان معاصراً لجعفر الصّادق، ويسمّيه الشّيعة مخترع الصّوفية.
- وذهب بعض الباحثين كالمستشرق الفرنسي "ماسينيون" والباحث الإيراني الشيعي الدكتور قاسم غنيّ, وغيرهم , أنّ أوّل من لُقّب بالصّوفي هو عبد الكريم الكوفيّ المعروف بـ" عبدك الصّوفي " (ت:210)، وأنّه كان على رأس طائفة شيعيّة تسمّي نفسها صوفية تأسّست بالكوفة.
وعلى كلّ حال، فإنّ هناك قواسم مشتركة بين هؤلاء الثّلاثة:
فقد اجتمعوا على التشيّع، ممّا يدلّ دلالة واضحة على علاقة التشيّع بالتصوّف، وسيأتي تفصيله في فصل خاصّ.
وقد اجتمعوا في نسبة الأسبقيّة إلى التلقّب بالصّوفي !
كما اجتمعوا على أنّهم كانوا ثلاثتهم بالكوفة ! وما أقربها من فارس !
وممّا يجمعهم: أنّهم ثلاثتهم اتّهموا بالزّندقة، والمجون !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – كما في " مجموع الفتاوى " (10/358)-:
" صار في ولاة الأمور كثيرٌ من الأعاجم، وخرج كثير من الأمر عن ولاية العرب، وعُرِّبت بعضُ الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والرّوم ... وحدث ثلاثة أشياء: الرّأي، والكلام، والتصوّف ... فكان جمهور الرّأي من الكوفة ... وكان جمهور الكلام والتصوّف في البصرة ..."اهـ
- وممّا يدلّ على أنّ مصطلح ( التصوّف ) و( الصّوفيّة ) قد عُرف تلك الأيّام: قولُ الشّافعيّ فيهم:" لو أنّ رجلاً تصوّف أوّل النّهار لا يأتي الظّهر حتّى يكون أحمق "، وقوله:" ما لزم أحد الصّوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً " [" تلبيس إبليس " (ص 327)].
ظهور أوّل طقوس الصّوفية:
كان من تلاميذ عبد الواحد بن زيد – الّذي سبق ذكره -: أحمد بن علي الهجيميّ (200 هـ) الّذي بنى دُوَيْرَةً للصّوفية، قال ابن تيمية رحمه الله:
" وهي أوّل ما بُنِي في الإسلام، وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمّونهم: " الفقرية "، وكانوا يجتمعون في دويرة لهم. وصار لهؤلاء من الكلام المحدث طريقٌ يتديّنون به، مع تمسّكهم بغالب الدّين ... وصار لهؤلاء حالٌ من السّماع والصّوت، حتّى إنّ أحدهم يموت أو يغشى عليه ..."اهـ [" مجموع الفتاوى " (10/359)].
وقال رحمه الله في " الاستقامة " (1/297):" وهذا حدث في أواخر المائة الثانية، وكان أهله من خيار الصّوفية ".
ويقول رحمه الله –كما في " مجموع الفتاوى " (11/534)-:" وهذه القصائد الملحنة، والاجتماع عليها، لم يحضرها أكابر الشّيوخ، كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، والكرخي, وقد حضرها طائفة منهم ثمّ تابوا، وكان الجنيد لا يحضره في آخر عمره "اهـ.
- ويدلّ على أنّ أمر هؤلاء قد شاع وذاع، كلام الإمام الشّافعي رحمه الله فيهم: فإنّه عندما دخل مصر عام (199 هـ) قال:" خلفت بالعراق شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغيير – وفي رواية: السّماع - يشغلون به الناس عن القرآن " [" تلبيس إبليس " (216)].
والمقصود بالسّماع: الغناء والمواويل الّتي ينشدها الصّوفيّة.
وتأمّل تسمية الشّافعيّ لهم بالزّنادقة، وقول السّلف:" من عبد الله بالحبّ وحده فهو زنديق " [" مجموع الفتاوى " (10/81)].
كما يدلّ كلام الشّافعيّ على موقف الأئمّة الأعلام من أوائل الصّوفيّة، وأنّهم كانوا لهم بالمرصاد.
ومن أشهر من ردّ عليهم أيضا مع مطلع القرن الثّالث: الإمام أحمد رحمه الله، وكان يحذّر بشدّة من كلام الحارث المحاسبي، ويأمر بهجر مجالسه.
ومشى أهل العلم من أتباع السّلف على هذا التّحذير والتّنفير، وقد سئل الإمام أبو زرعة عن كتب المتصوّفة وقيل له: إنّ فيها عبرة ! فقال رحمه الله:" من لم يكن له في كتاب الله عزّ وجلّ عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة ".
مسيرة الانحطاط:
- ثمّ مع مطلع القرن الثّالث بدأ التصوّف يظهر مذهبا ومشربا, له مصطلحاته, وكتبه, وقصائده, وتعاليمه، وضوابطه, وأصوله، وقواعده, وفلسفته, ورجاله، وأصحابه، وتشعّبت مع الأيّام واللّيالي والأعوام طرقه.
وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله مسيرة هذا الانحطاط في " تلبيس إبليس " ونلخّصه فيما يلي:
ثم مازال الأمر ينمى، والأشياخ يضعون لهم أوضاعا، وصاروا يرون أنّ ما هم فيه هو أوفى العلوم، حتّى سَمّوه العلم الباطن ! وجعلوا علم الشّريعة العلم الظاهر.
- ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادّعى عشق الحقّ والهيمان فيه، فكأنّهم تخايلوا شخصا مستحسن الصّورة فهاموا به ! وهؤلاء بين الكفر والبدعة.
- ثمّ تشعّبت بأقوام منهم الطّرق، ففسدت عقائدهم: فمن هؤلاء من قال بالحلول، ومنهم من قال بالاتّحاد.
- وجاء أبو عبد الرحمن السّلمي، فصنّف لهم كتاب " السنن "، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن ! والعجب من ورعهم في الطّعام وانبساطهم في القرآن !
- وصنّف لهم أبو نصر السرّاج كتابا سمّاه " لمع الصّوفية "، ذكر فيه جملة من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول.
- وصنّف لهم أبو طالب المكّي " قوت القلوب "، فذكر فيه الأحاديث الباطلة والاعتقاد الفاسد وأشياء منكرة مستبشعة في الصفات.
- وجاء أبو نعيم الأصبهاني، فصنّف لهم كتاب " الحلية "، وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبابكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة رضي الله عنهم ...
- وصنّف لهم عبد الكريم بن هوازن القشيري كتاب " الرّسالة "، فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء, والقبض, والبسط, والوقت, والحال, والوجد والوجود, والجمع والتّفرقة, والصّحو والسّكر, والذّوق والشّرب, والمحو والإثبات, والتجلي والمحاضرة والمكاشفة, واللوائح والطوالع واللوامع, والتكوين والتمكين، والشّريعة والحقيقة، إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء، وتفسيره أعجب منه.
- وجاء محمّد بن طاهر المقدسيّ، فصنف لهم " صفوة التصوّف "، فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها.
- وجاء أبو حامد الغزالي، فصنّف لهم كتاب " الإحياء " على طريقة القوم، وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه.
وسنقف مع بعض مذاهبهم، ونطّلع على عقائدهم، ومصادر فقههم في الحلقات القابلة إن شاء الله تعالى.