ولو ألقيت نظرة على تفسيره فحسب، لوجدت مصطلح الحاكميّـة تكرّر قرابة 140 مرّة، ومصطلح المنهـج زهاء 600 مرّة.
من هنا زال عجبُنا من ظاهرة كانت تؤرِقنا، وبلجام الحيرة تُخرسُنا، وهي: ما السرّ في أنّ جلَّ وغالبَ من رفع لواء المنهج، كان بالأمس من جملة حاملي لواء الحاكميّة ؟!
وقبل بيان وجه الشّبه العمليّ في هذا الباب بين الغلاة في التّكفير والغلاة في التّبديع والتّنفير، أرى لزاما بيان ما يلي:
- الحاكميّة: كلمة ما أغلاها ! ولفظة ما أحلاها !
ما أعظم أن يكون الإنسان يمشي على الأرض، وتحكمه شريعة من السّماء !
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: من الآية40] ..
إنّ القلب ليرقص طربا، إذا علم أنّ الّذي يحكمه ويأمره، وينهاه ويرشده هو: الله جلّ جلاله.
فالحلال: ما أحلّه الله، والحرام: ما حرّمه الله، والدّين: ما شرعه الله، فكلّ تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عاطل.
ولكنّ إخواننا غلَوا وأفرطوا، من أجل قومٍ مَاعُوا وفرّطوا، فجعلوا ( الحاكميّة ) قسما من أقسام التّوحيد قائما برأسه، والحقّ أنّه يندرج تحت توحيد الألوهيّة والعبادة.
غلوّهم في ذلك، أوقعهم في كثير من المهالك، إذ سلّوا السّيوف والرّماح، فغمروا بالدّماء كلّ نادٍ وساح،
أخرج النسائى فى " خصائص على رضى الله عنه " (ص 32) عن عبيد الله بن أبى رافع:
" أنّ الحروريّة لمّا خرجت قالوا: لا حكم إلا لله, فقال عليّ رضى الله عنه: كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل، إنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم وصف أناساً إنّي لأعرفُ وصفَهم في هؤلاء:
(( يَقُولُون الحقَّ بألسِنَتِهِم لاَ يَجُوز هذا منهُمْ - وأشَار إلى حَلْقِه - مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ )).
[سنده صحيح كما في "الإرواء" للألباني (8/118)].
أمّا:
- المنهـج والمنهاج - بمعنى واحد - فهو في لغة العرب: الطّريق البيّن الواضح، مأخوذ من قولهم: أَنهَجَ الطريقُ: وضَحَ واسْتَبانَ.
ومنه ما رواه عبد الرزّاق في "المصنّف" (5/434) عن العبّاس رضي الله عنه قال:" لم يَمُتْ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى تَرَكَكُم علـى طريقٍ ناهِجةٍ "، أَي: واضحةٍ بَـيِّنَةٍ.
فأبرز خصائص الإسلام، وسنّة سيّد الأنام، الوضوح والبيان، والسّكينة والاطمئنان.
فيا للعجب لقوْم سلكوا طريقاً وعرةً كثيرة الإبهام، لا زمامَ لها ولا خطام، هم أنفسهُم لم يفهموها، ولا بقواعد وضوابط أحكموها، ثمّ سمّوها بالـ:( مـنـهـج ) ! فتحوّلت في الواقع إلى ( جـهـنـم ) !
وهكذا حين تنقلب الحروف، تجرّ إلى فتنٍ وحتوف !
فلا جرم أن ترى لسان حالهم يقول: ( أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً ).
أوجه الشّبه العمليّة:
1- كلّ من الطّائفتين جعل هذين المصطلحين مناطَ الولاء والبراء !
فلو كنْتَ من الزهّاد والصّالحين، والدّعاة العاملين، فإنّه لن يقبل منك صرفٌ ولا عدلٌ عند الطّائفتين حتّى:
تكون رافعا للواء الحاكميّة، عند غلاة التّكفير.
ومتمكّنا في المـنـهـج ! عند غلاة التّبديع.
أمّا إذا كنت لهم من الموافقين، فقد جُزت القنطرة ولو كنت من المنافقين.
2- كلّ من الطّائفتين ينبز العلماء بجهل الحاكميّة والمنهج.
فقد كنّا قديما نعاني من غلاة المتصوّفة الّذين قسّموا أهل العلم إلى: علماء شريعة، وعلماء حقيقة !
- فجاء غلاة التّكفير، فحملوا راية التّفريق بين علماء الشّريعة، وعلماء فقه الواقع والحاكميّة !
- وأقبل غلاة التّبديع، فرفعوا لواء التّفرقة بين علماء الشّريعة، وعلماء المنهج !
كم من مناقشة صُودِرت، وكم من أفواهٍ ألجِمت، بسبب قولهم:
- فلان، عالم بالحديث .. عالم بالفقه .. عالم باللّغة .. ولكنّه جاهل بالواقع، ليس راسخا في مسالة الحـاكميّة !
- فلان، فقيه .. وخطيب مفوّه نبيه .. له باع في الفقه والتّفسير .. عالم بسنّة النبيّ البشير .. ولكنّه غير متمكّن من المـنـهـج !
ومع الأيّام، يشتدّ وحْيُ إبليس، ويحمَى الوطيس، فيحملون لواء الطّعن واللّمز، والثّلب والهمز:
- فلان، عالم بالحديث .. متبحّر في العلوم .. ولكنّه جبان .. ضعيف ليس من أصحاب المواقف .. تابعٌ للحكّام ! حاشيته من السّلطة .. ونحن أخْبَرُ منه بمكايد الأعداء ..
- فلان، عالم متبحّر .. ولكنّه مغفّـل .. حاشيته من أهل الأهواء .. دلّسوا عليه ! لا يعرف مسائل المـنـهـج والجرح والتعديل .. ونحن أخْبَرُ منه بالمناهج البدعيّة، وأعلم بأوكار الحزبيّة .. بل سلفيّتنا أقوى من سلفيّته !
لقد أثخنت هاتان الطّائفتان الجراح في صفوف أهل الإسلام، فسقطت مرجعيّة كثير من العلماء الأعلام، حتّى أضحى الإمام مأموما، والحاكم محكوما، والطّلبة يزكّون المعلّمين، ويعدّلون أو يجرّحون الدّعاة العاملين.
ورحم الله القاضي عبد الوهّاب القائل:
مَتَى تَصِلُ العِطُاشُ إِلى ارْتِوَاءٍ *** إِذَا اسْتَقَتِ البِحَارُ مِنْ الرَّكَايَا ؟
وَمَنْ يُثْنِي الأَصَاغِرَ عَنْ مُرَادٍ *** وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ فِي الزَّوَايَا ؟
وإِنَّ تَرَفُّعَ الوُضُعَـاءِ يَـوْمًا *** عَلَى الرُّفَعَـاءِ مِنْ أدهى الرَّزَايا
إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِي *** فَقَدْ طَـابَتْ مُنَادَمَـةُ الْمَنَايَا
3- زعم كلّ من الطائفتين إحياء فرائض ميتة.
- فيزعم غلاة التّكفير: أنّهم أَحْيَوا معنى ( لا إله إلاّ الله ) بين الأجناس، حين أبرزوا معنى الحاكميّة للنّاس.
وكان من وراء ذلك استباحتهم للتّفجيرات، والقتل والاغتيالات - جاهلين أنّهم مسيّرون لا مختارون -، فهدموا من حيث يظنّون أنّهم يشيدون:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
- ويدّعي غلاة التّبديع: أنّهم أحْيَوا علم المـنـهـج، وجدّدوا علم الجرح والتّعديل بفكرهم الأعـرج.
وكان من وراء ذلك ظهور عصبيّة مقيتة في الأمّة، والقول بعصمة الأئمّة، وطاشت سهامُهم في أعراض، وانتشر بمسلكهم آفات وأمراض، يظنّون أنّهم يفعلون ما يريدون، والحقّ أنّهم ينفذون ما يريد الأعداء الحاقدون، {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، فنسأل الله تعالى أن يرفع عنهم أدواءَهم.
والقاسم المشترك بعد هذا العراك، أنّهم جعلوا الأمّة بلا حِراك، فلا الإسلام نَصَروا، ولا الكفرَ كَسَروا، ولا البدعة دحروا.