ذلك؛ لأنّ القيراط من الموازين القليلة، وهو عند العرب نصف سدس درهم، أو نصف عشر دينار.
وهذا أمر معلوم لدى العرب، وسار عليه العلماء.
ويدلّ على ذلك ما رواه البزّار - وهو في " صحيح التّرغيب والتّرهيب" وأصله في الصّحيحين - عن عبدِ اللهِ بنِ عبّاس رضي الله عنهما قال: قال لي أبو ذرّ : يَا ابْنَ أَخِي، كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم آخذا بيده فقال لي:
(( يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا وَفِضَّةً أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ قِيرَاطًا )).
قلت: يا رسول الله، قنطارا ؟ قال: (( يَا أَبَا ذَرٍّ ! أَذْهَبُ إِلَى الأَقَلِّ وَتَذْهَبُ إِلَى الأَكْثَرِ ؟! أُرِيدُ الآخِرَةَ وَتُرِيدُ الدُّنْيَا ؟! قِيرَاطًا ))، فأعادها عليّ ثلاث مرّات.
وإنّما راج تفسير القيراط بأنّه مثل جبل أُحُدٍ لأمرين اثنين:
أوّلهما: أنّ الحديث فيه ترهيب من اقتناء الكلاب، فلا يناسِب أن يُفسّر القيراط بأنّه نصف سُدس درهم ! وإنّما المناسب هو التّعظيم والتّكثير.
الثّاني: ثواب صلاة الجنازة.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ )).
والجواب عن ذلك:
أنّه قد ذكر ابن عُقيل الحنبليّ، ووافقه عليه ابن الجوزيّ، وابن القيّم، والحافظ ابن حجر، والسّيوطيّ رحمهم الله أنّ ( قيراط كلّ شيء بحسبه ).
فإذا كان الكلام عن المال، فالمراد هو: نصف سدس الدّرهم.
وإن كان الكلام عن أعمال العباد فالمراد نصف سدس أجرِها.
وتوضيح ذلك على النّحو الآتي:
أ) من اقتنى كلبا يحرم اقتناؤه، فإنّه ينقص من أجره نصفُ سدسه.
قال ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد " (2/256):
" ويكون صِغَرُ هذا القيراط وكِبَرُه بحسب قلّة عمله وكثرته، فإذا كانت له أربعة وعشرون ألف حسنة مثلا، نقص منها كلّ يوم ألفا حسنة وعلى هذا الحساب، والله أعلم بمراد رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مبلغ الجهد في فهم هذا الحديث "اهـ.
ب) ومن صلّى على جنازة أو اتّبعها فإنّ له قيراطاً من الأجر، أو عملهما معاً فإنّ له قيراطين.
والقيراط: نصف سدس الأجر المعهود من القيام على الميّت، فهناك أجر تجهيز هذا الميّت، وأجر الصّبر على المصيبة به، وأجر غسله، وأجر تكفينه، وأجر الصّلاة عليه، وأجر تشييعه، وأجر دفنه، وأجر التّعزية به، وأجر حمل الطّعام إلى أهله، وأجر تسليتهم.
فمجموع هذا الأجر يأخذ منه المصلّي على الجنازة نصفَ سُدسِه.
ولكن لمّا كان السّامع لهذا القدر ربّما ظنّ قلّة الأجر وضآلته، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( القِيرَاطُ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ))، فمثّل لهم الأجر بما يعرفون عظمتَه وقدرَه.
فما بالك بمن قام بكلّ ما يتعلّق بتجهيز الميّت وأحكام الموت ؟
قال ابن القيّم رحمه الله في "بدائع الفوائد":
" لم أزل حريصا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث، وإلى أيّ شيء نِسبتُه، حتّى رأيت لابن عُقيل فيه كلاما، قال:
القيراط: نصف سدس درهم مثلا، أو نصف دينار، ولا يجوز أن يكون المراد هنا جنس الأجر؛ لأنّ ذلك يدخل فيه ثواب الإيمان وأعماله كالصّلاة والحجّ وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلغ هذا، فلم يبق إلاّ أن يرجع إلى المعهود، وهو الأجر العائد إلى الميت.
ويتعلّق بالميّت أجر الصّبر على المصاب فيه، وأجر تجهيزه، وغسله ودفنه والتعزية به وحمل الطعام إلى أهله وتسليتهم، وهذا مجموع الأجر الّذي يتعلّق بالميّت، فكان للمصلّي والجالس إلى أن يُقبَر سُدسُ ذلك، أو نصف سدسه إن صلّى وانصرف " اهـ.
عودٌ على بدءٍ:
فمعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم في التّرهيب من اقتناء الكلاب المحرّم اقناؤها: (( نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ )): أنّه ينقُص من أجر عمله نصف سدسِه، والله المستعان.
- وهل ينقصُ أجر عمل ذلك اليوم، أو من مجموع عمله ؟
الرّاجح أنّه ينقص أجر عمل ذلك اليوم، كما قال الشّيخ يوسف بن عبد الهادي رحمه الله في " الإغراب في أحكام الكلاب" (ص 119) وابن القيّم رحمه الله.
- وهل ينقصُ الأجرُ مِن صاحب الكلب، أو مِن أهل البيت جميعهم ؟
جاء في سنن الترمذي عن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَا مِنْ أهْلِ بَيْتٍ يَرْتَبِطُونَ كَلْباً إِلاَّ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ كَلْبَ غَنَمٍ )).
فالظّاهر أنَّ الأجرَ ينقص مِن كلّ مَن يملك إخراجَ الكلب مِن المنـزل ولم يخرجه، دون مَن عداه؛ لأنَّ مَن ملك إخراجَه ولم يفعل كان في حكم المقتنِي.
والله أعلم.