- ويطلق على الطّاعة والخضوع، تقول: " دانت لهم العرب والعجم "، ومنه قول الشّاعر:
( من القوم الرّسول الله منهم لهم دانت رقاب بنـي معدّ )
ويمكن أن يعود الأوّل للثّاني، لأنّ الملّة هي الّتي تطيع الله بها.
- منها العادة، تقول العرب: هذا دينه وديدنه.
- والحُكم، ومنه قوله تعالى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: من الآية76].
- والورع، كقولك: فلان صاحب دين صلب. وشواهد ذلك يطول ذكرها.
ومن معانيه الّتي تفسّر بها الآية:
- الجزاء، كما في المثل ( كَمَا تَدِينُ تُدَانُ ) [واشتهر لدى النّاس أنّه حديث، وليس كذلك].
- الحساب، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: من الآية25]، وقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1]، وقوله تعالى حكاية عن أهل الشّرك:{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافّات:53]، أي: محاسبون.
وقد يقول قائل: أليس الجزاء والحساب شيئا واحدا ؟
فالجواب: أنّ الحساب يراد منه الجزاء غالبا، ولكن قد يطلق الدّين ويراد منه الحساب فقط، كما جاء في تفسير قوله تعالى-على قول-:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التّوبة: من الآية36]، قالوا: ذلك الحساب القيّم إشارة إلى أنّ حساب الأيّام بالأشهر القمريّة هو الحساب القيّم الّذي جعله الله مواقيت للنّاس والحجّ.
فمعنى ( الدّين ) في الآية: الجزاء والحساب.
أخرج الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه وناس من الصّحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: هو يوم الحساب، ويوم الجزاء، وقال البخاري في " تفسير الفاتحة ": " وَالدِّينُ الْجَزَاءُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:{بِالدِّينِ}: بِالْحِسَابِ، {مَدِينِينَ} مُحَاسَبِينَ.
ومنه اتّصافه عزّ وجلّ بوصف ( الديّان )، وهل هو من أسمائه ؟ سنراه إن شاء الله تعالى ؟
المبحث الثّاني: أيّهما أبلغ المالك أو الملك ؟
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) بغير ألف، وقرأ عاصم والكسائيّ ويعقوب: ( مَالِكِ ) بألف، وفي أيّهما أبلغ مذهبان:
- اختار قوم كأبي العبّاس المبرّد قراءة:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لأنّه بتأويل الفعل، كقولك: مالك الدّراهم، ومالك الثّوب، ومالك يوم الدّين: يملك إقامة يوم الدّين وتدبيره والحكم فيه.
ولأنّ الله وصف نفسه قائلا:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْك} [آل عمران: من الآية26]، فهو يملك كلّ ملك وصاحبه.
- واختار قوم ( ملك ) لأمرين:
1) أنّه سبحانه تسمّى بالملك ولم يتسمّ بـ( المالك ).
قال تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طـه: من الآية114]، وقال:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: من الآية23]، وفي الصّحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟)).
2) ولأنّ الملك يملك المالك، وليس العكس.
والصّواب أن يقال: إنّ في الجمع بين القراءتين فائدةً عظيمةً:
وهو أنّ مُلكه جلّ وعلا مُلك حقيقيّ؛ لأنّ من الخلق من يكون مَلِكاً، ولكن ليس بمالك، يسمّى ملكاً اسماً، وقد يُحال بينه وبين سلطانه، وليس له من التّدبير شيء؛
ومن النّاس من يكون مالكاً ولا يكون ملكاً: كعامّة الناس.
ولكن الله تعالى عزّ وجلّ مالكٌ وملكٌ، فلا يكون في ملكه إلاّ ما يريد، ولا يريد إلاّ ما يُحمد عليه، ولذلك كثرت النّصوص في الكتاب والسنّة الإخبار عن الله بأنّ {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: من الآية1].
المبحث الثّالث: هل ( الديّان ) من أسمائه عزّ وجلّ ؟
لا شكّ أنّ من صفاته سبحانه أنّه ( الديّان ) أي: المحاسب والمُجازي، ولكنّهم اختلفوا في إثباته اسما على قولين:
- 1) أثبته الخطّابيّ، وابن منده، والحليميّ، والبيهقيّ، والقرطبيّ، وابن القيّم، رحمهم الله جميعا.
- 2) ولم يذكره ابن حزم، ولا الأصبهانيّ، ولا ابن العربيّ، ولا ابن حجر، ولا الشّيخ السّعديّ، ولا الشّيخ العثيمين، رحمهم الله تعالى.
والصّواب إثباته، لما رواه الإمام أحمد في " مسنده "، والحاكم في " المستدرك " (4/574)، وصحّحه ووافقه الذّهبيّ، وصحّحه الشّيخ الألباني في تخريجه لأحاديث "السنّّة " لابن أبي عاصم ، وأخرجه البخاري تعليقا في " كتاب التّوحيد "[13/452-فتح] عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ:
بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ رضي الله عنه،.
فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ ! فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْقِصَاصِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ ؟ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا )).
قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا ؟ قَالَ: (( لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ. ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ ! أَنَا الدَّيَّانُ ! وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ )).
قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا ؟ قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ )).
المبحث الرّابع: لماذا خصّ الله تعالى ملكه بأنّه يوم الدّين ؟ مع أنّه ملك ومالك كلّ شيء في كلّ زمان ومكان ؟
من فوائد الآية: إثبات البعث والجزاء لقوله تعالى:{مالك يوم الدّين}، أمّا سبب تخصيصه الملك بيوم الدّين، فذلك لأسباب:
- الأوّل: لظهور ملكوته، وملكه، وسلطانه ذلك اليوم، فالله تعالى ينادي:{لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى:{لله الواحد القهار} [غافر: 16]؛ أمّا في الدّنيا فقد ظهر ملوك ينازعون الله ملكه،كفرعون والنّمروذ وأمثالهم في كلّ مصر وعصر. قال تعالى:{وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: من الآية73]، وقال:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج: من الآية56]، {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان:26].
- الثاني: في ذلك اليوم لا يدّعي أحد شيئا، حتّى حقّ الكلام لا يملكه، قال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]، وقال:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38].
ولتمام ملكه سبحانه فإنّه لا يملك يومئذ أحد حقّ الشّفاعة، حتّى يأذن سبحانه، قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: من الآية255].
- الثّالث: ولحثّ الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون.