وهكذا ينبغي أن يكون الشّباب .. قلب الأمّة النّابض، وشريانها المتدفّق دما، يدفع بها إلى أعلى القمم ..
فمن العيب كلّ العيب أن يكون الشابّ عالةً على غيره .. حتّى إنّ كثيرا من الأدباء عدّوا أهجى بيتٍ قالته العرب هو قول الحطيئة يهجو الزّبرقان بن بدر:
( دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي )
أي: المطعوم الّذي يُطعمه غيره، والمكسوّ الّذي يكسوه غيره.[1]
والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو المروءة كلّها .. فقد رضي أن يلجأ إلى أشقى المهن وأهونها في نظر النّاس على أن يكون عالة على غيره ..
ولك أن تتخيّله – أخي القارئ – وهو يسير طوال النّهار وسط صحراء خلف الغنم الّتي استرعاه النّاس إيّاها يبحث عن العشب والكلأ الّذي تقوم به، وعن الماء الذي ترتوي منه ..
وإلاّ حُرِم من أجره إن بدا على الغنم الهزال.
وكانت الغلّة آخر النّهار: ( قراريط ) معدودة.
فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ )) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ: (( نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ )).
وزيادة على وجوب توفير أخصب المراعي، وأطيب العشب، فإنّها مهنة تتطلّب الحماية التامّة للقطيع من أعدائه ومفترسيه ..
بل إنّها تتطلّب الحلم الكامل على اختلاف طبائع البهائم، فمنها الشّارد، ومنها ما يتعثّر، ومنها ما يضل عن القطيع ..
إنّ الرّعي بقدر ما يولّد قساوة الحياة وخشونة العيش، فإنّه يورث القلب عطفا وحنانا، وهذا ما يحتاج إليه كلّ راع لرعيّته، ولذلك اختار الله للأنبياء هذه المهنة ..
وبعيدا عن هذه المهنة .. فإنّه لا بدّ أن نجول في رحاب حياته صلّى الله عليه وسلّم تلك الأيّام ..
فهو شابّ .. يُخالط أمثاله من الشّباب ويعيش بينهم .. ويعلم علم اليقين أنّ هؤلاء لهم عكوف على كهوف البِغاء، وموائد الخمر والغناء ..
إنّه يعيش وسط قوم تعلوهم الغرائز، وتلوي أعناقهم الشّهوات، فيجهدون للحصول عليها ولا يُوقفهم نداء ناصح، ولا صيحة زاجر .. يبذلون الأموال، والسّاعات الطّوال، حتّى يظفروا بلهو لحظات وخيمة العواقب ..
أمّا نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم الذي أنبته ربّه نباتا حسنا، ما كان يهمّ بشيء من ذلك.
لقد كان حيّ الجسد والرّوح .. سليم الفطرة والجبلّة ..
كان يعلم أنّ حياته أغلى من أن يصرفها في لهو ولعب .. إنّه يشق طريقه بذراع مفتول، وجبين مرفوع.
تعاملت معه قريش كلّها فما ضاع لهم مال ولا بهيمة، حتّى صاحوا صيحة رجل واحد يوم دخل عليهم دار ندوتهم:" أتاكم الأمين ".
وكان معروفا بالفتوّة، والشّجاعة، وقد شهد حرب الفجّار.
* حرب الفجّار:
حرب الفجّار هذه هي الأخيرة، وكان قبلها حربان أخريان كلّ منهما سمّي بحرب ( الفجّار ):
الأولى: كانت بين كنانة وهوازن.
والثّانية: بين قريش وهوازن.
وهذه هي الثّالثة، كانت بين كنانة وهوازن أيضا. وهي المعروفة بفجّار البُراض، نسبةً إلى رجل من كنانة، قتل عُروة الرحّال من هوازن.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم هاجت الحرب ابن أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة.
وكانت قريش حلفاء لكنانة، فكان لزاما عليهم أن يؤازروهم، وكانوا في الشّهر الحرام، فسمِّي ذلك اليوم بيوم الفجّار لأنّهم استحلّوا فيه المحارم.
وشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض أيّامهم، فقد طالت الحرب، وبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سنّ العشرين، فأخرجه أعمامُه معهم، وقد رآه حكيم بن حزام حاضرا يومها، وكان صلّى الله عليه وسلّم ينبل على أعمامه، أي: يردّ عنهم نبل عدوّهم إذا رموهم بها.
قال ابن اسحاق وابن سعد: هاجت حرب الفجّار ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة.
ثمّ وضعت الحرب أوزارها، وأدّت قريش دية قتلى الحرب.
* حلف الفضول.
ثمّ شهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حِلف الفضول، وهو حِلف عقدته قبائل قريش فيما بينها، حيث تعاهدوا فيه على ألاّ يجدوا مظلوما في مكّة من أهلها أو من غيرهم إلاّ كانوا معه على من ظلمه حتّى يرُدُّوا له حقّه.
روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ ))[2].
وهذا يدلّ على أنّ حياته صلّى الله عليه وسلّم كان يغشاها الجدّ والحزم، لا اللّهو واللّعب ..
ولكنّه أتعبته هموم العمل، وأهلكه التّعب ..
تشقّقت قدماه من أشواك الصّحاري .. وأدمتها صخور الجبال، فأمسى مكدود البال، مُنهك القُوى، يبحث عن ساعة يتنفّس فيها راحة ومرحا ..
وكأيّ شابّ سويّ، فهو ليس بحاجة إلاّ إلى فتاة تملأ بيته وحياته بالحبّ والعفاف، وتمسح عن جبينه هموما تقذفها أيّام مكّة .. ولكنّه لم يجد تلك الفتاة .. بل وجد خديجة رضي الله عنها ..
وهذا ما سنتطرّق إليه إن شاء الله لاحقا.
[1] قال الزبرقان: أو ما تبلغ مروءتي إلاّ أن آكل وألبس ! فسأل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الشّعراء فأخبروه أنّه هجاء مذقع، فأمر به عمر فجعل في نقيرٍ في بئر ثم ألقي عليه شيء، فقال الحطيئة حينها مستعطفا:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مـرخٍ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ ... فاغفر عليك سلام الله يا عمـر
فعفا عنه عمر رضي الله عنه على ألاّ يعود إلى الهجاء. [انظر " طبقات فحول الشّعراء "، و" نهاية الأرب في فنون الأدب " وغيرها].
[2] " سلسلة الأحاديث الصّحيحة " (4/542).