ولا غَرْو؛ فالمُنَصِّرون - خصوصًا البروتستَنْت الجدُد - يتبَنَّون بِوَقاحةٍ المنهجَ الإعلاميَّ الدعائي، الذي لا يقف عند الحدود الأخلاقيَّة، ولا يُقدِّر المسؤوليَّة الإعلامية، وقُدوتُهم في ذلك كبيرُهم الذي علَّمَهم التنصير، المزوِّر المُخَضرم بُولس، الذي ذاع صيتُه في الآفاق، وتفَكَّهَت بِمَناقبه في التَّزوير الرُّكبان.
ولقد قضى هذا الذي انتحَل صفة رسول المسيح عمرَه في التَّصحيف، وقصَدَه للانتفاع به أهلُ التحريف، فدانَتْ له الكنيسةُ حتَّى أرسى عقائدَها الخبيثة، وهو الّذي تُنسَب إليه نصرانيَّةُ أيامنا هذه.
فهذا الأخير كان أُنْموذجًا تنصيريًّا يُحتذى به، سبَق شبيهَيْه في صنعة التَّضليل والتزوير: "ميكيافيلي" مستشار الأمير، وثانيه مسؤول الدعاية النازيَّة "جوزيف جوبلز" الوزير.
يقول "بولس" في إحدى رسائله التنصيريَّة مُفْصحًا بلا خجل ولا وجَل عن مسلكه التَّنصيري في رسالته الأولى لأهل كورنثوس 9: 16 - 22:
" لأنّه إنْ كنْت أبشِّر فليس لي فخْرٌ؛ إذِ الضَّرورة موضوعةٌ عليَّ، فويْلٌ لي إنْ كنت لا أُبشِّر؛ فإنه إنْ كنت أفْعل هذا طوْعًا فلي أجْرٌ، ولكنْ إنْ كان كرْهًا فقد استُؤْمِنْت على وكالةٍ، فما هو أجْري ؟ إذْ وأنا أبشِّر أجْعل إنْجيل المَسيح بلا نفقةٍ، حتَّى لَم أستعْمِل سلطاني في الإنْجيل؛ فإنِّي إذْ كنتُ حرًّا من الجميع، استَعْبَدتُ نفْسي للجميع؛ لأرْبح الأكْثرين، فصِرْتُ لليهود كيهوديٍّ؛ لأرْبح اليهود، وللذين تحْت الناموس كأنِّي تحْت الناموس؛ لأرْبح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموسٍ كأنِّي بلا ناموسٍ - مع أنِّي لسْتُ بلا ناموسٍ لله، بلْ تحْت ناموسٍ للمسيح - لأربح الذين بلا ناموسٍ، صرْت للضُّعفاء كضعيفٍ؛ لأرْبح الضُّعَفاء، صرْت للْكلِّ كلَّ شيْءٍ؛ لأُخَلِّص على كلِّ حال قوْمًا".
كان "بولس" يتلوَّن كالحرباء، ويلبس لكلِّ حالٍ لَبُوسها، فهو مع اليهود أحَدُ أحبارِهم، ومع النَّصارى واحِدٌ من قدِّيسيهم، ومع الوثنيِّين رأسُ مُنَظِّريهم... وهكذا، فبدل أن يُغيِّرَ المَدْعوِّين بدعوته كان يتغيَّرُ هو ! بل ويُغيِّرُ دعوة المسيح؛ حتَّى أقحم فيها من الضَّلالات والخزعبلات والخرافات ما مَسَخ به مَعالِمَ صورتها الأصلية، ولقد أعانه - فيما بعْدُ - على هذه الأفعال الشَّنيعة "قسطنطينُ" إمبراطورُ الرُّومان بجرائمه الفظيعة، فقد أعمَلَ هذا الذي ادَّعى التنصُّرَ؛ لأَغْراض سياسيَّة، السيفَ في أتباع "أريوس" المُوَحِّدين، فقتل وسجن وشرَّد.. وكان عُبَّاد الصليب يَدْعون له على المنابر بالنَّصر القريب، ويَحثُّونه على استئصال أعداء المسيح الحبيب! حتى استتبَّ لَهُم الأمر، وخلا لهم الجوُّ، فعادوا إلى مقولتهم الكاذبة الخادعة: "أحِبُّوا أعداءكم، أحسِنُوا إلى مُبْغِضيكم، وباركوا لاعنيكم !"، بعدما سالت البَطْحاء دمًا، وسُقيت الأمصار دموعًا.
وما أصدقَ قول الشاعر:
حَكَمْنَا فَكَانَ العَدْلُ مِنَّا سَجِيَّةً *** وَلَمَّا حَكَمْتُمْ سَالَ بِالدَّمِ أَبْطُحُ
وقبل أن نَغْرق في تلك الدِّماء والدُّموع، أعود إلى القسِّ "يعقوب عماري" المُنَصِّر، الذي عَلِمْتم بِاسْتِرسالِيَ السابقِ مواصفاتِ مدرستِه التي تَخرَّجَ منها، والتي ينتمي إليها.
كان برنامَجُه الإذاعيُّ يُحْدِث في نفسي بالِغَ الأثر؛ فقد زادَتْنِي حلقاته تَمسُّكًا واقتناعًا بالقُرآن والسُّنة أكثر فأكثر !
كانت كلُّ كذبة منه تقذف شحنة جديدة من الإسلام في قلبي، حتَّى أيقَنْتُ أنَّ الرجل فارِغٌ، وبرنامجه فارغ، ودعوته فارغة، وأدلته فارغة.
لكنَّنِي أحسَنْتُ الظنَّ به؛ فلعلَّه يظنُّ في قرارة نفسِه أنَّه صادق، ولا يشعر بأنه في بَحْر الكذب غارق، وأنّ هذا هو مَبْلغه من العلم، ونبيُّنا صلّى الله عليه وسلّم أوصانا بالْحِلْمِ، كما أنَّ ديننا يدعونا إلى إقالة العثَرَات، ما لم تَثْبت الإدانات.
وقد كان في نِهاية كلِّ حلقة من برنامَجِه يدعو مستمعيه إلى مُراسلته؛ مُخبِرًا بأنَّه على استعدادٍ للإجابة عن استفساراتِهم، والرَّدِّ على اعتراضاتِهم في الحلقة التَّالية.
فقرَّرْتُ الاتِّصال به، فحَبَّرتُ له رسالة تَحْوي خطوطًا عريضة عن برنامَجِه ومضمونه، أدْعُوه فيها إلى مُناقشة ما يَطْرَح فيه بِهُدوء بالغ، وكلمة طيِّبة، وجدال حسَنٍ، فردَّ سريعًا على رسالتي مُستفسِرًا عن مُرادي ورغبتي، فأعلمْتُه أنَّ في حلقات برنامجه ما يَحْتاج إلى إيضاح، فأعاد الكرَّة، وطلب أسْئِلَتي واعتراضاتي بإلحاح.
والأسئلة عن الكتاب المقدَّس كثيرة، والاعتراضات على النَّصرانية مثيرة، وتفاصيل مباحثها تنوء بِحمْلِها الأسفار، ومناقشة أصولِها تَفْنَى لها الأعمار.
فمن أين أبدأ ؟
أرسلتُ إليه في الأوَّل بضعةَ أسئلة بريئة وصغيرة، أشبه ما تكون بـ "شيء من تَحْت الحساب"، كما يقول التُّجَّار، أو أقرب ما تكون أسئلة "للتَّسخين والتَّحمية"، كما يقول الرِّياضيُّون؛ انتظارًا للمقابلة النهائيَّة، التي لن تَرَ قطُّ ضوء النَّهار ! فالأسئلة البريئة التسخينيَّة أحرَقَت أوراقه عند أوَّل لقاء، فأدخلَنِي في حلقة مفرغة، ودائرة لا أوَّل لَها ولا آخِر، فقد كنتُ كُلَّما وَجَّهتُ إليه أسئلة يدعوني إلى الاستماع إلى الإذاعة، وكلَّما استمعت إلى الإذاعة لا يُجيب، ويدعوني مرَّة أخرى إلى إرسال رسالة !
إذاعة .. رسالة .. إذاعة .. رسالة .. وبَقِيَت الأسئلةُ بلا جواب ! واستمرَّ على حاله حتَّى انقطعْتُ عن برنامَجِه، فانقطعَتْ عنِّي ألاعيبُه.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكَر، ولِتَشابه التَّجربتَيْن لا بأس بذِكْر مثال ثانٍ عن الدَّوائر النَّصرانية المفرغة، لِبَطل ثانٍ من أبطال الحلقات النصرانيَّة الفارغة، فقد التقيْتُ في بلد إسلامي مُنصِّرًا أمريكيًّا اسْمه "نورمان"، وهو يَعْمل منذ سنوات طويلة على باخرة تنصيريَّة أمريكيَّة، تَجُوب البِحَار، وتَرْسو في الموانئ؛ لِتُفرِّغ سُمَّها الزعاف من الأناجيل والكتب والمطويَّات، وغيرها من خيوط شبكة الصَّيد التي يُلْقونَها لاصطياد المسلمين، وضَمِّهم إلى قائمة الهالكين.
زار "نورمان" أكثرَ من سبعين دولةً، وأنشأ معهدًا لتدريب المُنَصِّرين في ولاية "وسكنسن" الأمريكية، فأراد أن يَحْفر حفرة لِيُوقِعَنِي فيها، فإذا به يقَعُ هو في حفرته، ولا يزال معشِّشًا فيها، فقد بادر إلى أن عرَضَ عليَّ حوارًا دينيًّا عَبْر البريد الإلكترونِيِّ، فقلتُ في نفسي:" على نفسها جنَتْ براقش "، فقد صال وجال بين فُقَراء المسلمين والمُعْدمين والمنكوبين، يستغلُّ آلامَهم، وجُوعهم ومرضهم؛ ليُنصِّرهم بلا خُلُق ولا مروءة، وها قد وصل إلى مَن سيكشف له زَيْفَ مِلَّتِه، وضلالَ سعْيِه، وخُبْثَ أفعاله بعون الله وتوفيقه.
وهنا وقفة؛ فأشعر بِتَملمُل بعض قُرَّاء هذا المقال قائلِين: على رِسْلِك ! وتواضَعْ، ولا تعتدَّ بنفسك، واضْبِط ثِقَتَك بنفسك ولا تتهوَّر.
فأُسْرِع وأقول: لست معتدًّا بنفسي، لكنَّني معتدٌّ بدِينِي إلى أبْعَد الحدود، أمَّا ثِقَتِي فهي مُطْلَقة، لكنَّها ليست فِيَّ، وإنَّما في ربِّي عزّ وجلّ.
وثَمَّة أمران آخران يَمْنحاني القوَّة؛ للوقوف أمام أولئك المُنَصِّرين مهما زَمْجَروا انتفاخًا:
الأمر الأوَّل: فأنا لن آتِيَ بِما لم تَأْت به الأوائل، وإنَّما أنا متطفِّل على عمالقةِ مُقارَنة الأديان الذين نتتلْمَذ جَميعًا على دراساتِهم وكتُبِهم؛ من أمثال ابن تيميَّة، وابن القيِّم، وابن حَزْم، والقرافي، والقرطبِيِّ، ورَحْمة الله الهنديِّ، وديدات ... وغيرهم رحمهم الله جميعًا.
أمّا الأمر الثّاني: فهل رأيتم حوارًا أو مناظرة بين مُسْلم ونصراني رَبِح فيها النَّصرانِيُّ وخَسِر فيها المسلم، حتى لو كان ذلك المسلمُ أقلَّ دراية وعلمًا من غريمه ؟
والله لو وقفَتْ عجوزٌ مُسْلمة، بدويَّة أُمِّية، بِفِطرَتِها السَّليمة أمام البابا، وناظرَتْه لأفحَمَتْه، ولَمَا قَدر عليها؛ لأنَّ الحقَّ أبلج، والباطل لَجْلَج.
قال تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وقال جلَّ وعلا:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
بدأ الحوار مع "نورمان" المنصِّر، وكانت بُغْيتُه أن يُتْخِمَني بالحديث عن ربِّ السّماوات والأرض الذي نَزَل على مريم عليها السَّلام ! فحُبِسَ تسعة شهور داخل بطنِها ! ثُمَّ خرَج إلى الدُّنيا من فَرْجِها، ورضع من لبن ثدْيِها ... وعند اليوم السَّابع اختتَن الإله ! ولم ينته بَعْدُ العجب، ففي الثالثة والثلاثين انتحَر على صليبٍ من الخشب... لقد مات الإله ! فغُسِّل وكُفِّن ودُفن... فصار مَهْلكُه عمَلاً بُطوليًّا كفَّاريًّا، غُفِرَت بِمُوجبه خطيئةٌ اقترفَها جدُّ البشر الأكبر آدم عليه السَّلام قبل عشرات الآلاف من السنين ..."شنشنةٌ أعرفها من أخزم".
أمَّا الحوار عندي فهو أن يُجيب عن تساؤلاتِيَ الكثيرة عن دينه وكتابه، فإنْ قدر على ذلك أذْعَنَّا للحقِّ غير كارهين.
فلمّا أبدى استعدادَه، أرسلْتُ له كعادتي الأسئلة التَّسخينيّة الصّغيرة البريئة، كالّتي طرَحْتُها على زميله يعقوب عماري، فإذا به يبدَأ في اللَّفِّ والدَّوَران ! ثُمَّ الدوران واللَّف ...
كان يزعم أنَّه قادر على الردِّ على أسئلتي كلِّها، ومِن فَرْطِ ثِقَتِه بنفسه كان يستعجِلُها، فإذا نزَلَتْ عند مُرادِه وأرسلْتُها، يُخْبرني بعد مُدَّة بأنَّ لِكُلِّ أسئلتي جوابًا، فإذا استعجلْتُ بدوري الْجَواب دعاني إلى البحث عنه على شبكة الإنترنت في المواقع المخصَّصة لذلك، فأدخلَنِي كسابقِه في دوَّامة دائريَّة، وحلقة مفرغة أخرى... رسالة... إنترنت... رسالة... إنترنت... إلخ.
وبعد عامين كاملَيْن من التِّيه كتبْتُ إليه مُعاتِبًا: بأنَّك أنت مَن دعا إلى الحوار، ولَمَّا انطلق النِّقاشُ كنتُ كلَّما سألتُك تُحِيلُني إلى عناكِبِ شبكة "الإنترنت" ومُحَرِّكات بَحْثِه، وأنا حينما قَبِلْتُ بالحوار قصَدْتُ مُحاورتك أنت "نورمان"، وليس مُحاورة "جوجل"، أو "ياهو"!
هذه نَماذِجُ للفِرَقِ التنصيريَّة، فَشِلَتْ بِمُجرَّد التسخين، وانكشفَتْ عند بدء التَّحمية، فهي فِرَق لا تعرف المنافسة في اللِّقاءات الفكريَّة الواسعة، ولا التَّباري في الميادين العلميَّة الفسيحة، وإنَّما دَيْدَنُها التنمُّر في دوائر مفرغة، والاستئساد في حلقات فارغة.