فمعنى هذا الجزء من الحديث القدسيّ العظيم: أنّ العبد المؤمن إذا اجتهد بالتقرّب إلى الله بالفرائض، ثمّ بالنّوافل قرّبه ربّه إليه، ورقّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان.
فيصبح العبد يعبد الله كأنّه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة ربّه، ومحبّته، وتعظيمه، وخوفه ومهابته وإجلاله.
قال الحافظ ابن رجب الحنبليّ رحمه الله:
" فإذا امتلأ القلب بذلك، زال منه كلّ تعلّق بكلّ ما سوى الله، ولم يَبْقَ للعبد تعلّق بشيء من هواه. ولا إرادة إلاّ ما يريده منه ربّه ومولاه، فحينئذ لا ينطق العبد إلاّ بذكره, ولا يتحرّك إلاّ بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع بالله، وإن نظر نظر بالله، أي: بتوفيق الله له في هذه الأمور، فلا يسمع إلاّ ما يحبّه الله، ولا يبصر إلاّ ما يرضي الله، ولا يبطش بيده، ولا يمشي برجله إلاّ فيما يرضي ربّه ومولاهاهـ. " [" جامع العلوم والحكم " (2/347)] .
وليس المعنى: أنّ الله هو سمعه، وأنّ الله هو بصره، وأن الله هو يده ورجله - تعالى الله عن ذلك - فإنّه سبحانه فوق العرش، وهو العالي على جميع خلقه، ولكن مراده سبحانه: أنّه يوفّقه في سمعه وبصره ومشيه وبطشه؛ ولهذا جاء في الرّواية الأخرى قوله سبحانه: " فـبـي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش، وبي يمشي" يعني: أن يوفّقه في أعماله، وأقواله، وسمعه، وبصره، هذا معناه عند أهل السنّة والجماعة، ومع ذلك يجيب الله دعوته، فإن سأله أعطاه، وإن استعان به أعانه، وإن استعاذ به أعاذه.
ومن أشار إلى غير هذا المعنى فقد أساء وظلم وتعدّى على مقام الله عزّ وجلّ، وخالف ما تعرفه العرب من كلامها، وما تفهمه من مثل هذه الإطلاقات.
قال الشّيخ ابن عثيمين رحمه الله في " مجموع فتاواه " (1/9154):
" فأنت ترى أنّ الله تعالى ذكر عبدا ومعبودا، ومتقرِّبا ومتقرَّبا إليه، ومحِبًّا ومحبوبا، وسائلا ومسئولا، ومعطِيا ومُعطَى, ومستعيذا ومستعاذا به، ومعيذا ومعاذا، فالحديث يدلّ على اثنين متباينين كلّ واحدٍ منهما غير الآخر، فإذا كان كذلك، لم يكن ظاهرُ قوله: (( كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ )) أنّ الخالق يكون جزءاً من المخلوق، أو وصفا فيه تعالى الله عن ذلك، و إنّما ظاهره وحقيقته أنّ الله تعالى يسدّد هذا العبد في سمعه وبصره وبطشه، فيكون سمعه لله تعالى إخلاصا وبه استعانة وفيه شرعا واتّباعا، وهكذا بصره، وبطشه ومشيه. اهـ .
والله أعلم .