" عدّ هذا كبيرةً هو ما أطبقوا عليه، وهو ظاهر، لما فيه من الوعيد الشّديد الّذي علمته ممّا ذكر، بل في الحديث الّذي مرّ آنفا التّصريح بأنّه من الكبائر، بل جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه أكبر الكبائر " اهـ.
وممّا ورد من الوعيد في حقّ اليائس من رَوْح الله قوله تعالى:{ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [الحجر:56].
وروى ابن حبّان في " صحيحه " بسند صحيح – كما قال الشّيخ الألباني رحمه الله في " صحيح التّرغيب والتّرهيب " (1887) - عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( ثَلاَثَةٌ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ نَازَعَ اللهَ عزّ وجلّ رِدَاءَهُ، فَإِنَّ رِدَاءَهُ الكِبْرُ، وَإِزَارَهُ العِزُّ، وَرَجُلٌ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَالقَانِطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ )).
وروى الطّبري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنّه فسّر قوله تعالى:{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة:195] قال: هو الرّجل يذنب فيقول: لا توبة لي.
وورد هذا الوعيد في حقّه؛ لأمور جاء ذكر بعضها في سؤالك:
· الأمر الأوّل: أنّ فيه قدحا في صفات الله تعالى:
فالله عزّ وجلّ يخبر عباده بأنّ رحمته وسعت كلّ شيء، ولكنّ الإنسان بقنوطه، اليائس من رحمة الله مكذّب لله في خبره ! فكأنّه يقول: بل إنّ ذنبي أعظم وأوسع من رحمة الله !
· الأمر الثّاني: أنّ فيه جهلا بالله تعالى:
والله قد أوجب على العباد معرفته، وتسمّى بأسماء كثيرة تدلّ على رأفته وسعة رحمته: كالرّحمن، والرّحيم، والرّؤوف، والتوّاب، والغفور، وغير ذلك.
· الأمر الثّالث: أنّ في ذلك إرضاء لإبليس لعنه الله:
فهو الّذي يعدُّ اليأس من رحمة الله أعظمَ جنده، روى الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح - كما قال الألباني في " صحيح التّرغيب والتّرهيب " (رقم 1617)- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول:
(( قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي )).
فالواجب على المسلم دوما أن يعيش بين الخوف والرّجاء، ولا ينبغي له أن يترك أحد الأمرين يغلب الآخر:
فإن رأى من نفسه كِبْراً وغرورا، وميلا إلى الشّهوات، وجب عليه أن يتذكّر أنّ الله شديد العقاب، وأنّه ربّما أمهله وأملى له لا سترا عليه ولا محبّة له، وإنّما استدراجا له ليأخذه وهو على تلك الخال.
وإن وقع في الذّنب، فقد أُمِر أن يكون من التّائبين المستغفرين، لا أن يكون من القانطين الآيسين من رحمة ربّ العالمين.
· الأمر الرّابع: أنّ القنوط فيه سوء ظنّ بالله عزّ وجلّ:
فحسن الظنّ بالله من أعظم منازل السّائرين، وأشرف مقامات العابدين؛ لأنّه دليل على أنّه يعرف الله حقّ المعرفة، ولقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي )).
إنّه: ظنّ الإجابة عند الدّعاء، وظنّ القبول عند التوبة، وظنّ المغفرة عند الاستغفار، وظنّ المجازاة عند فعل العبادة بشروطها، تمسّكا بصادق وعده عزّ وجلّ.
· الأمر الخامس: أنّ اليأس يدعو الإنسان إلى ترك العمل، والتّمادي في الباطل.
بل إنّه يدعو الإنسان إلى ترك أشرف عبادة على الإطلاق وهي دعاء الله تعالى وسؤاله الرّحمة والمغفرة، ويمنعه من عبادة التّوبة.
· الأمر السّادس: أنّ ذلك يؤثّر على الآخرين أيضا.
فإنّ القانط اليائس رسالة مدمّرة إلى من حوله، فكم من إنسان تاب ورجع إلى الله بسبب ما يُظهره الطّامع في رحمة الله من خير !
وكم من إنسان ارتدّ على عقبيه بسبب وجهٍ عابسٍ، وقلبٍ يائسٍ.
وأختم جوابي هذا بما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في الصّحيحين: قال صلّى الله عليه وسلّم:
(( فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ )).
والله الموفّق لا ربّ سواه.