ربّما نسِيَها بعضُهم .. ومن تذكّرها منهم ربّما لفتَ انتباهَه آخرُ كلمة في الوصيّة (( حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ )).
كلامٌ يمكن أن تذيبه نشوةُ الانتصار بالتّأويل. تأخّر الأمر عليهم، ولم يُرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحدا إليهم ..
ربّما كان الحال أبلغَ من المقال، فلا حاجة إلى إرسال أَحَد .. فكلّ شيء على ما يرام، فلا بأس من النّزول ولا ملام ..
حكّموا رأيهم واجتهدوا، فصرخوا هاتفين بالغنيمة .. روى البخاري عن البرَاءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنه قالَ:" فَأَنَا -وَاللهِ- رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ، فقالَ أصْحَابُ عبدِ اللهِ بنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه: الْغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ، الْغَنِيمَةَ ! ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ، فَمَا تَنْتَظِرُونَ ؟ فقالَ عبدُ اللهِ بنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ؟! قالُوا: واللهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ ".
ومع نزولهم من الجبل وانحدارهم، نزلت وانحدرت الكارثة .. فإنّ العدوّ متربّص بكم{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: من الآية102].. إنّكم غفلتم عن ثغرة من ثغرات خطّتكم ..
في هذه اللّحظات لاحظ المشركون أنّ جبل ( عينين - وصار يسمّى جبلَ الرّماة -) لم يعُد يلقي عليهم شهب الموت الّتي ألقاها هذا اليوم .. لقد رأوا الفراغ الّذي تركه الرّماة، فلم تعد تعوقهم تلك الضّربات الموجعة من السّماء ..
بل تنفّس المشركون الصّعداء، وهم يَرَوْن تحوُّلاً في شبكة الجيش الإسلاميّ الّذي لم يعد أحدٌ يعرف أوّلَه من آخره ! تلك الصّفوف المنظّمة الّتي كانت تقاتل كأنّها بنيان مرصوص تحوّلت إلى خيوط متشابكة !
وصفه أحد الصّحابة فأبلغ، ففي مسند أحمد عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قالَ:".. لَمَّا غَنِمَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَبَاحُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ، أَكَبَّ الرُّمَاةُ جَمِيعًا، فَدَخَلُوا فِي الْعَسْكَرِ يَنْهَبُونَ، وَقَدْ الْتَقَتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَهُمْ كَذَا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ - وَالْتَبَسُوا، فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخَلَّةَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، دَخَلَتْ الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ..".
لقد أضحى الجيش النّبوي بين المنطرقة والسّندان كما يقال: إذ استجمع أبو سفيان جيشَ المشركين من جديد، وهم لا يزالون يفوقون ألْفَيْ مقاتل .. لم يُقتل منهم إلاّ سبعون، وكثير منهم أثخنتهم الجراح، ولكنّهم لا يزالون يفوقون المسلمين كثرةً ..
إنّ الكثرة لا تهزم أهل الإيمان كما تقرّر .. ولكن، بشرط امتثال أوامر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. والآن هم يخالفون أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وصارت المعركة تبتسم للمشركين، وصارت المبادرة بأيديهم .. وما زاد الأمر هولا وخطرا هو أنّ المشركين قد اختلطوا بالمسلمين !
وفي قلب الظُّلمة والفوضى والغبار تعالَت الصّيحات، وارتفعت الآهات .. وإنّها لأصواتُ قومٍ نعرفهم.
يُكملُ ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنه حديثَه السّابق قائلا:" فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَبَسُوا، وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ ".
صار المسلمون يُصدّقون كلّ شيء، ويستجيبون لكلّ صارخ .. وخاصّة عندما دوّت صرختان على أرض أحدٍ ..
صرخة حسيل رضي الله عنه: هذا الشّيخ لا يزال يقاتل ويمتّع ناظِريه بمشهد النّصر والظّفر، ويعوّض ما فاته يوم بدر هو وابنُه حذيفة رضي الله عنه .. لكنّ الله يريد أن يمتّعه بالخلود، كما متّع صاحبَه عمرو بن الجموح.
صرخة الشّيطان: فبينما هو على حاله تلك، إذ بصارخٍ يصيح بالمؤمنين .. روى البخاري عن عائشَةَ رضي الله عنها قالت:" هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللهِ، أُخْرَاكُمْ ! فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ ..." أي: اختلطوا فصاروا يظنّون أنّهم من العدوّ !
تكمل قائلةً:" فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ ابْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: أَبِي ! أَبِي ! قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ. فقالَ حذَيْفَةُ رضي الله عنه: غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ ". قالَ عُرْوَةُ: " فوَاللهِ مَا زَالَتْ في حُذَيْفَةَ رضي الله عنه مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللهَ ".
لا ندري ممّ نعجب ؟ أنعجبُ من تلك الصّرخة الّتي انطلقت من إبليس: ( أَيْ عِبَادَ اللهِ، أُخْرَاكُمْ !)؟ أي: احترزوا من جهة أخراكم، وهي كلمة تقال لمن يخشى أن يؤتى عند القتال من ورائه.
وكان ذلك تخويفا من الشّيطان الرّجيم، وبيّن الله تعالى أمره، وفضح مكره حيث قال:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
أم نعجب من الفوضى الّتي عمّت صفوف المسلمين ؟! فقد استغلّ الشّيطان هجومَ المشركين واختلاطَهم بالمسلمين !
ولا تزال عبارة ابن عبّاس رضي الله عنه تدوّي في الآذان: ( فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَبَسُوا، وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ ).
ولا تزال صرخةُ حُسَيْلٍ رضي الله عنه تجرحُ الفؤادَ .. لقد قطّعته سيوف المؤمنين خطأً في ذلك الظّلام الّذي أثاره الغبار والحيرة والاشتباك بين الصفّين ..
والأعجَب: إيمانُ ويقين وسلوك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ! يقول محمود بن لبيد رضي الله عنه:" فقالَ حذيْفَةُ: أَبِي أَبِي !". فقالُوا: وَاللهِ مَا عَرَفْنَاهُ - وَصَدَقُوا -، فَقَالَ حُذَيْفَةُ:" يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ " !
يُقتلُ والدُه وصاحبُه أمام عينيه فلا يتلفّظ بكلمة نابية ! لا قول فاضح، ولا عتاب جارح ! رضي الله عن حسيل، ورضي الله عن حذيفة، ورضي الله عن الرّماة .. ورضي الله عن عتبة بن مسعود أخي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد ذكر ابنُ سعدٍ أنّه هو كان القاتلَ.
ومّما يزيدك تعظيما لحذيفة رضي الله عنه: موقفه من الدّية: قال محمود رضي الله عنه:" فأراَدَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَدِيَهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ حُذَيْفَةُ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَزَادَهُ ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم "..
تحوّلت المعركة تحوّلا رهيبا.. ولو شاء الله لصرف المؤمنين عن أيدي الكافرين كما صرفهم في بدر، ولكنّ الله لا يريد نصرا ومجدا على أشلاء طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: من الآية152]. ولم يقل تعالى: ثمّ نصرهم عليكم .. لأنّ الله لا ينصر أعداءه، ولكن يرفع يدَه لخللٍ في أوليائه.
استشهادُ حمزة رضي الله عنه.
وفي غمار المعركة من هذه المرحلة العصيبة، كانت سيوفُ المشركين تنهش لحومَ فرسان أهل الإيمان، وتسفك دماءَ أهل الإحسان.
وهنا لاح بريقُ الحرّية من بعيد للعبدِ الحبشيّ وحشيّ .. كان لا يزال يترقّب أن يهدأ قليلا هذا الأسدُ الهصورُ الّذي يقاتل بسيفين ويصرخ ( أنا أسد الله، أنا أسد الله ).
كان لا يزال ينتظر الفرصة السّانحة للقضاء على هذا الّذي يحول بينه وبين حرّيته. وبعد أن كاد ييأس من الوصول إلى بغيته، حدث ما حدث، وانكشف حمزة لوحشيّ، فماذا فعلت يا وحشيّ بن حرب ؟!
تتمّة رواية البخاري وابن إسحاق عن وحشيّ قال:" خَرَجْتُ أَنْظُرُ حَمْزَةَ وَأَتَبَصَّرُهُ، حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي عُرْضِ النَّاسِ، كأنّه الجمل الأورق يهدّ النّاس بسيفه هدّاً، فَوَاللهِ إِنِّي لَأتَهَيَّأُ لَهُ، أَسْتَتِرُ مِنْهُ بِشَجَرَةٍ، وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ ...).
إذن فهو يستتر بالأحجار خشية أن يراه هذا الموت الهائل .. فبينما حمزةُ يمشي إلى آخر ضحاياه، إذا بوحشيّ يفتح الله على يديه لحمزة عالم الخلود !
قَال وحشيّ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي [هززْتُ حَرْبَتِي حتَّى رضِيتُ منْهَا] رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ ! قالَ: فكَانَ ذَاكَ الْعَهْدَ بِهِ ".
هنا فقط انفجرت دماء حمزة، فتساقطت ولكنّه لم يسقط .. التفت إلى طاعِنِه ولاحقَه ! قال وحشيٌّ - كما في سيرة ابن إسحاق -: " وَذَهَبَ لِيَنُوءَ نَحْوِي، فَغُلِبَ، وَتَرَكْتُهُ وَإِيَّاهَا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى العَسْكَرِ، وَقَعَدْتُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِغَيْرِهِ حَاجَةٌ، إِنَّمَا قَتَلْتُهُ لِأُعْتَقَ "..
ودّع حمزة رضي الله عنه أصحابه في ساحة أُحُدٍ.. ودّعهم وودّع النّيَّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي ما اغتمّ كما اغتمّ بموته ..
ودّعه بجسده، ولكن ظلّ حمزة في قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى آخر حياته .. بكى عليه، وصلّى عليه، ولكن لم ينسَه ..
لم ينس أبدا سيفَه الّذي رآه في المنام قد أصابته ثُلمة .. يقول وحشيّ رضي الله عنه:" قَدِمْتُ علَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَلَمَّا رَآنِي، قالَ: (( آنْتَ وَحْشِيٌّ ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (( أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ ؟)) قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنْ الْأَمْرِ مَا بَلَغَكَ. قَالَ: (( فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي ؟))".. وفي رواية عند الطّيالسي: " فَمَا رَآنِي حَتَّى مَاتَ "..
ودّعَ حمزةُ أصحابَه وهو يراهم في تراجع وانكسار: منهم من فرّ إلى المدينة:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} ..كانوا في غفلة عن جسده الطّاهر الّذي تقدّم إليه رجل مجهولٌ، فأخرج أداةً حادّة فجدع بها أنف حمزة رضي الله عنه، وشقّ بطنه، ومثّل به !
شاهد بعضُ الصّحابة ما فعله هذا المجهولُ بحمزة رضي الله عنه، فذهب ليُخبر النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فانطلق إليه، ولكنْ ..
أين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم !؟
وسط هذا الغبار، ووسط هذا الجيش الّذي يكاد ينهار، ربّما كان على جبل ( عَينين ) مع القلّة الباقية من الرّماة.
لكنّ المشركين باغتوهم بأعداد كثيرة .. فاستُشهدوا على قمّة الجبل، ومنهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه.
أمّا على الأرض، فالأمر غامض جدّا .. بل قل: إنّها الفاجعة .. لقد دوّت صرخةٌ تشبه صرخة الشّيطان:
إنّ محمّدا قد قتل !