لقد أسندوا هذه الْمَهمّة إلى عبدٍ مقابِلَ حرّيته .. صحيح أنّه لا قِبَل له بقتال حمزة رضي الله عنه، ولكنّه يُحسِن الرّماية بالحِرَاب، فقد كانوا أهل دراية بها.. ولا تحتاج هذه المهمّة إلى أن يقترب من حمزة، إنّما تحتاج إلى دقّة في التّصويب، وترقّب من بعيد ..
إنّهم وكّلوا هذه المهمّة إلى وحشيّ بنِ حربٍ، الّذي استجاب لطلبهم حين علم أنّه ليس بينه وبين حرّيته إلاّ رمية بحَربةٍ.
وكلّ شيء يهون لذلك .. فهو ليس بينه وبين المسلمين أيّ عداء .. عدوّه الوحيد هو الرّقّ المضروب عليه..
قال وحْشيٌّ - كما في صحيح البخاريّ -: إِنَّ حَمْزَةَ رضي الله عنه قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلَايَ ابْنُ مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ.
- كذلك كان هذا الجيش المشرك لا يعرف حُبَّ الشّهادة والاستبشار بما وراءها ..
- وزد على ذلك كلّه: أنّ هذا الجيش يفتقد إلى النّظام .. فمن الصّعب أن تسيطر على جيش يبحث فيه كلّ فرد فيه عن فرد؛ فهناك تتشتّت الصّفوف، وتتمزّق القلوب.
- وكانوا يفتقدون إلى التعبّد بالطّاعة للأمير .. ففرق بين من يُطيعك لذاتك ولجاهك، ومن يطيعك لأنّ الله أمرك بطاعة الأمير.
وكلّ ما يفتقده المشركون فللمسلمين منه أعظم نصيب.. فعليهم ألاّ يفرّطوا في واحد من هذه المعالم ..
أمّا المسلمون: فتعالوا بنا إلى جيش النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ..
* وقف النّبي صلّى الله عليه وسلّم يتأمّل هذا الجيش الإسلاميّ: صحيح أنّ الجيش قليل، وعدّته قليلة، ولكنّه كثير وكبير بالإيمان بالله، واليقين بوعد الله، وما كان الله في شيء إلاّ كثّره وقوّاه ..
فإن كنتم اليوم قلّة، فقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة .. وأنّ النّاصر والمعين يوم بدر هو النّاصر والمعين كلّ وقت، فلا عبرة بالكثرة ولا القلّة، ونزلت الآيات:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} [آل عمران].
فها هو يذكّرهم بنصرٍ سابقٍ لم يكونوا يتوقّعونه ..
وهنا تحوّل الفشل الّذي أصاب بني حارثة وبني سلمة إلى قوّةٍ لا تُقهر، فصاروا يفتخرون بما نزل فيهم:
روى البخاري ومسلم عنْ جابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، وَاللَّهُ يَقُولُ:{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}..
* وذكّرهم بفضل الله عليهم، وأنّهم صفوة عباد الله تعالى في هذا الزّمان .. فبقاؤكم وانصراف المنافقين عنكم، لن يضرّكم، فذلك ما كنّا نبغي، فلا بدّ من أن يميز الله الخبيث من الطّيّب، فلا داعي للتحسّر عن المتقاعسين والقاعدين بلا عذر .. ولا داعي للاختلاف بشأنهم ؟
أزال الله تعالى ما كان بين الصّحابة من اختلاف في مصير المنافقين بآية محكمة .. روى البخاري ومسلم عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قالَ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَقْتُلُهُمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: لَا نَقْتُلُهُمْ، فَنَزَلَتْ:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: من 88] وَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّهَا طَيْبَةُ، تَنْفِي الذُّنُوبَ، كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ )) وفي رواية: (( تَنْفِي الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ )).
* وذكّرهم بسفرهم إلى الخلود .. وهنا التهبت القلوب شوقا إلى الله.. وإلى ثواب الله ..
لقد خطف أرواحَهم وعقولَهم وقلوبَهم وهم يسمعونه صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا يَعْنِي الْخِمَارَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ))..
* ثمّ ألهب فيهم الحماس، فعرض سبفه ذا الفقار على أصحابه:
روى الحاكم عن الزّبيرِ بنِ العوّام رضي الله عنه قالَ: عَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: (( مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ ؟)) قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ! فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: (( مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ ؟)) فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ! فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: (( مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ ؟)) فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، فَقَالَ: أًنًا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بِحَقِّهِ ! فَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ: (( أَنْ لاَ تَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا، وَلاَ تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ )). قَالَ: فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ القِتَالَ أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ حمراءَ..
قال أهل السّير: كانت له عصابة حمراء إذا اعتصب بها علم النّاس أنّه سيقاتل حتّى الموت.. فلمّا أخذ السّيف وعصّب رأسه، جعل يتبختر بين الصّفّين.
روى الطبراني بسند ضعيف - لكن يشهد له أحاديثُ أُخَر - أنّ أبا دجانة رضي الله عنه يوم أحدٍ أعلم بعصابة حمراء، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يختال في مشيته بين الصّفين، فقال: (( إِنَّهَا مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللهُ إِلاَّ فِي هَذَا المَوْضِعِ )).
وفي صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَخَذَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: (( مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا ؟)) فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ أَنَا ! أَنَا ! قَالَ: (( فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ ؟)) قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ ! قَالَ: فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ..
وترى في صفّ المسلمين رجلين من أعظم الأبطال.. خَلَيَا بأنفسهما ساعة.. فمن هما ؟ وماذا يقولان ؟
إنّهما من الأوائل، أحدهما: أوّل من رمى سهما في سبيل الله: سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.
والثّاني: أوّل من قاد سريّة كان من ورائها الغنائم: إنّه عبد الله بن جحش رضي الله عنه.
روى الحاكم وأبو نعيم عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلاَ تَأْتِي نَدْعُو اللهَ ؟ فَخَلَوْا فِي نَاحِيَةٍ، فَدَعَا سَعْدٌ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِذَا لَقِينَا القَوْمَ فَلَقِّنِي رَجُلاً شَدِيدًا بَأْسُهُ، شَدِيدًا حَرْدُهُ، فَأُقَاتِلَهُ فِيكَ وَيُقَاتِلَنِي، ثُمَّ ارْزُقِنِي عَلَيْهِ الظَّفْرَ حَتَّى أَقْتُلَهُ وَآخُذَ سَلَبَهُ.
فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ رضي الله عنه فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي رَجُلاً شَدِيدًا حَرْدُهُ، شَدِيدًا بَأْسُهُ، أُقَاتِلْهُ فِيكَ وَيُقَاتِلْنِي، ثُمَّ يَأْخُذَنِي فَيَجْدَعَ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذاَ لَقِيتُكَ غَدًا قُلْتَ: يَا عَبْدَ اللهِ ! فِيمَ جُدِعَ أَنْفُكَ وَأُذُنُكَ ؟ فَأَقُولُ: فِيكَ وَفِي رَسُولِكَ صلّى الله عليه وسلّم ! فَتَقُولُ: صَدَقْتَ.
وهنا، اقتربت ساعة الصّفر، وتدانت الفئتان .. وتقارب الجمعان ..