ومنهم - كابن هشام وابن القيّم في " الزّاد " - من رجّح أنّه صلّى الله عليه وسلّم خرج يريد قريشا إذ مرّت بالفرُع، وهو الأقوى؛ لأنّ ديار بني سليم لم تكن بناحية الفرع، وإنّما هي في نجد بعيد عن طريق الحجاز.
- المستخلف على المدينة: عبد الله بن أمّ مكتوم رضي الله عنه.
- حامل اللّواء: لم تذكر المصادر حاملَ لواء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذه الغزوة، وكان عدد من خرج من المسلمين ثلاثمائة مقاتل.
- مدّة مكث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خارج المدينة: لمّا اختلفوا في سبب الغزوة اختلفوا في مدّة مكثِه صلّى الله عليه وسلّم خارج المدينة:
فمن جعل السّبب غزوَ بني سليم قال: إنّه صلّى الله عليه وسلّم مكث خارج المدينة عشرة أيّام.
ومن قال: إنّه خرج إلى قريش جزموا أنّه صلّى الله عليه وسلّم ظلّ ما يقارب الشّهرين، بقيّةَ ربيع الأوّل، وربيعا الآخر كلّه، وبعضا من جمادى الأولى.
- نتيجة الغزوة: لم يكن هناك قتالٌ بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقريش؛ إذ لم يلحقهم.
ومن ثمّ كانت قريش يساورها القلق والاضطراب، وازداد قلقُها بحلول فصل الصّيف؛ فقد اقترب موسم رحلتها إلى الشّام، فما العمل ؟ وهل من أمل ؟
إنّ الطّريق الّذي كانوا يسلكونه إلى الشّام لم يعُد آمناً، وخير دليل على ذلك ما وقع ببدرٍ ! وما حدث لهم في بحران !
وكان لا بدّ من إيجاد مخرج من هذه الورطة ..
ربّما تفطّن بعضهم إلى أنّ السّاحل بعيدٌ عن المسلمين ؟
ولكنّهم تذكّروا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد وادع أهلَ السّاحل ودخل عامّتهم معه !
فحينئذٍ قام صفوان بن أميّة وهو الّذي انتخبته قريش لقيادة تجارتها إلى الشّام، بعد أن صار أبو سفيان زعيمَها، فقال صفونُ:
إنّ محمّدا وصحبَه قد عوّروا علينا متجرَنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون السّاحل ! وما ندري أين نسلك !؟ وإن أقمنا في ديارنا أكلنا رؤوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء !
ودار بين الزّعماء حديث طويل .. كان بإمكانهم أن يرجعوا إلى أنفسهم، ويعلموا أنّ الله تعالى قد بدأ بتعجيل عذابهم في الدّنيا.. ولكن.. نطق الأسود بن عبد المطّلب وقال لصفوان:
" تنكّبْ الطّريق على السّاحل، وخذْ طريق العراق !"، وهي طريق طويلة جدّا، تمرّ بكلّ نجد حتّى تصل الشّام، وهم في فصل الصّيف !
وتأمّل كيف دارت الأيّام، وتغيّرت الأحوال: إنّ قريشاً تفرّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.. وتتّخذ أوعر الطّرق وأبعد السّبل، حتّى ظلّت وصمةَ عار في جبينهم، وقد قال حسّان بن ثابت بعد ذلك شعرا في ذلك:
دَعُوا فَلَجَاتِ[4] الشَّامِ قدْ حالَ دونها *** جِلادٌ كأفواه المخاضِ الأَوَارِك[5]
بأيدي رجال هاجروا نحـو ربّـهم *** وأنصاره حقّا وأيدي الملائـك
إذا سلكَتْ للغورِ من بطن عالـج[6] *** فقولا لها: ليس الطّريق هنالك
ولكنّ هناك مشكلة ينبغي انتزاعها من طريقهم .. فهذه الطّريق لا علم لأحد من قريش بها ومسالكها .. فعندئذ أشار الأسود نفسه أن يتّخذوا لهم دليلا خرّيتا.. ألا وهو فرات بن حيّان من بني بكر ين وائل.
وخرجت عير قريش في سِرِّية تامّة ..لا أحد يعلم بثنايا الطّريق إلاّ دليلهم .. قائدها صفوان بن أميّة.
ولكنّ الله تعالى بالمرصاد:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: من الآية11].
فقد طارت الأخبار إلى المدينة .. ولكن كيف ؟!
في ليلة من تلك اللّيالي المحرقة في الصّيف، كان نُعَيْمُ بنُ مسعود - وكان لا يزال على شركه - في سَمَرٍ مع أحد خلاّنه، وهو سُلَيْطُ بنُ النّعمان - وكان قد أسلم وكتم إسلامه -، فأخذت الخمر من نُعَيْمٍ مأخذَها، حتّى تحدّث عن خبر العير، وطريقها، وما تحمله من فضّة وأوانٍ وغير ذلك ! فأسرع سُليطُ بنُ النّعمان إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينقل إليه الخبر، وهنا أمر الله تعالى بـ:
- سريّة زيد بن حارثة رضي الله عنه..
جهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّةً قوامُها مائةُ راكب، وأمّر عليهم زيدَ بنَ حارثة رضي الله عنه، وأسرع زيدٌ حتّى دهم القافلة بغتة، وكانت العير تريد أن تنزل على ماء في أرض نجد يقال له " قَـرَدة "[7]، فاستولى على عيرهم كلّها: إبلِها وما تحمله من متاعٍ وأوانٍ، وفضّة، وأسروا دليلهم فراتَ بن حيّان ورجلين معه.
وما كان من صفوان بن أميّة ومن معه إلاّ أن فرّوا يجرّون أذيالَ الهزيمة والخيبة العظيمة، دون أدنى مقاومة، فلم يكن هناك قتال.
ورجع زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى المدينة بالقافلة المحمّلة، قُدِّرت قيمتها بمائة ألف، قسمها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المقاتلين بعد أن أخذ الخمس، وأسلم فرات بن حيّان على يدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وكانت مأساة عظيمة على قلوب المشركين من قريش، ونكبة كبيرة على صدورهم ! فها هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُذيقُهم مرارةَ الهزيمة مرّة أخرى، فاشتدّ همّ المشركين وعظم غمّهم.. ولم يبق أمامها إلاّ طريقان:
إمّا أن تمتنع عن غطرستِها وكبريائِها، وتُسلمَ وجهها لله تعالى، وأن تسارع على الأقلّ إلى موادعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كما فعل غيرهم.
أو تقوم بحرب شاملة تذهب بالأخضر واليابس، تستعيد به مجدَها، وتُظهرَ لقبائل العرب جميعِهم قوّتَها.
ولا شكّ أنّ الطّريق الثّاني هو الّذي وقع عليه الاختيار، فعزموا على جمع أكبر جيش يمكنه أن يحصد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودعوتَه إلى الأبد ..
فكان ذلك كلّه مقدّمةً لغزوة أُحـد.
[i] انظر " معجم البلدان " (1/341).
[ii] الفرْع بالسّكون، وقال السهيلي في " الرّوض الأنف " (3/143) : " الفرُع بضمّتين".
[iii] البريد = أربعة فراسخ، والفرسخ = ثلاثة أميال، والميل = 1748 مترا. فثمانية برد: ما قارب 170 كلم.
[iv] الفلجات هي العيون الجارية.
[v] المخاض: هنّ حوامل الإبل. والأوارك: هي الّتي ترعى شجر الأراك.
[vi] الغور: ما انخفض من الأرض. و( عالج ) هو مكان كثير الرّمل.
[vii] قردة: بالتّحريك كما في " معجم البلدان " (4/322)، وأمّا ابن الأثير فأثبتها في " الكامل " (2/145): ( الفردة ) بالفاء.