العنوان |
استماع المادة |
تحميل المادة |
تحميل الدّرس مكتوبا |
- شرح الأصول الثّلاثة (16) منزلة الخوف من الله تعالى الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد: فقال المؤلّف رحمه الله: ( ودليلُ الخوفِ قوله تعالى:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]). الشّرح: فإنّ العبادة تُعرف إمّا بالتّصريح بأنّها عبادة كما مرّ في الدّعاء، أو بكونها مأمورا بها منهيّا عمّا يُضادّها، كما هو الشّأن في الخوف. وخوف الله عزّ وجلّ من أعلى منازل السّائرين، وأشرف مدارج السّالكين، وأعظم ثمرات معرفة ربّ العالمين. وهو أحد ركائز العبادة الثّلاث: الحبّ، والخوف، والرّجاء، فبالمحبّة يكون امتثال الأمر، وبالخوف يكون اجتناب النّهي، وبالرّجاء يتعلّق العبد في ثواب الأمر والنّهي. فإذا تقرّر أنّ الخوف عبادة وجب إفراد لله تعالى به، وكان صرفها لغير الله شركا. وأتى المؤلّف بالدّليل على ذلك، هو:
لمّا انصرف أبو سفيان والمشركون عن أحد، وبلغوا الرّوحاء، قالوا: لا محمّدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، شرّ ما صنعتم ! فبلغ ذلك رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فندب النّاسَ، فانتدبوا حتّى بلغوا حمراء الأسد أو بئر أبي عيينة، فأنزل الله تعالى:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}، وقد كان أبو سفيان قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا.
روى البخاري في "صحيحه" عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالهَا إبراهِيمُ عليه السّلام حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وَقَالَهَا محمّدٌ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ قالُوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. ومعنى {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}: يخوّفكم أولياءَه. وأَولياءُ الشّيطان هم أنصارُه الّذينَ ينصرون الفحشاءَ والمنكرَ؛ لأنَّ الشيطانَ يأمر بذلك. فكلّ من ينصر الفحشاء والمنكر فهو من أولياءِ الشيطان، قال ابن القيّم رحمه الله في "إغاثة اللّهفان" (1/118): " ومن كيدِ عدوِّ الله تعالى أنّه يُخوِّف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان "اهـ. فرجل العقيدة إذا ألقى الشّيطانُ في نفسه الخوفَ، فإنّ الواجبَ عليه أن يعلم أنّ الإقدامَ على كلمةِ الحقِّ ليس هو الّذي يدني الأجلَ، وليس السّكوت والجبنُ هو الّذي يطيل العمر، فكم ممّن صدع بالحقِّ ومات على فراشه، وكم من جبانٍ قُتِل في بيته، وهذا خالدُ بنُ الوليدِ رضي الله عنه كان شجاعًا مقداما ومات على فراشه ! فلا بدّ من الثّقة بالله، فهو القائل:{إنَّ اللهَ معَ الّذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، وقد قال العارفون:" من خاف اللهَ خافه كلّ شيءٍ، ومن اتّقَى اللهَ اتّقاهُ كلُّ شيء، ومنْ خاف من غيرِ اللهِ خاف من كلِّ شيءٍ ". ومن الكلام الشّائع الباطل ما يقوله بعضهم: خفْ ممّن لا يخاف الله ! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى"-: " وبعض النّاس يقول: يا ربّ، إنّي أخافك وأخاف من لا يخافك ! فهذا كلام ساقط لا يجوز؛ بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخافَ أحداً؛ فإنّ من لا يخاف الله أذلُّ من أن يُخافَ؛ فإنّه ظالم، وهو من أولياء الشّيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه. وإذا قيل: قد يؤذيني ؟ قيل: إنّما يؤذيك بتسليطِ الله له، وإذا أراد الله دفعَ شرّه عنك دفعه فالأمر لله؛ وإنّما يسلَّطُ على العبد بذنوبه، وأنت إذا خِفت الله فاتّقيته وتوكّلت عليه، كفاك شرَّ كلِّ شرّ، ولم يسلّطه عليك، فإنّه قال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ... فإذا خِفتَ اللهَ، وتُبتَ من ذنوبك، واستغفرته، لم يسلّط عليك، كما قال:{وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}"اهـ. والشّاهد من الآية نهيُ الله سبحانه وتعالى عن الخوف من عدوّه، والنّهي يقتضي التّحريم.
فإن كان الخوفُ يؤدِّي إلى الشّركِ فهو منافٍ لأصلِهِ، وإلاّ فهوَ مُنَافٍ لكماله. - أقسام الخوف من الله تعالى: هو قسمان: أ) خوف محمود: وضابطه: ما يردّ العبد عن محارم الله عزّ وجلّ، والقيام بحقّه، وحقوق العباد. وهذا خوف المحبّين، الّذين لا يُبالون برضا أحدٍ على حساب رضا الله عزّ وجلّ، شعارهم: فليتك تحلو، والحيـاة مريـرةٌ *** وليتك ترضَى والأنام غِضاب فإن صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن *** وكلّ الّذي فوق التّراب تراب وأعلى درجاته: الورع، وهو ترك الشبّهات. ب) خوف مذموم: وهو ما أدّى إلى القنوط واليأس من رَوح الله عزّ وجلّ. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله:" ينبغي أن يكونَ خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيُهما غلبَ هلكَ صاحبُهُ ". - أقسام الخوف من غير الله تعالى: فإنّ الخوف أقسام، ولكلّ قسم حكمه: الأوّل: خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع، وهو ما يسمّى بخوف السرّ، سمّي بذلك لأنّه يكون بباطن العبد، فيخاف الشّيء لظنّه أنّه يجلب الضرّ أو النّفع، أي: يضرّ وينفع بلا سبب. وضابطه: أن يخاف ما لا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه. وهذا لا يحلّ صرفه إلاّ لله سبحانه، فمن أشرك فيه مع الله غيره؛ فهو مشرك شركاً أكبر. ومن أمثلة ذلك: مَن يخاف من الأصنام، أو الأولياء، أو الأموات، فيعتقدون نفعهم وضرّهم؛ من قطع نسلٍ، أو جلب فقرٍ، أو مرضٍ، أو جنون. ومن عُبّاد القبور من يخاف صاحب القبر أكثر ممّا يخاف الله عزّ وجلّ ! كاعتقادهم وجوب الطّواف بضريح، أو الذّبح له وإلاّ أصابه مكروه. هذه الحالة هي حالة تعلق القلب بغير الله تعالى، وهو الّذي قال الله جلّ وعلا فيه على لسان إبراهيم عليه السّلام:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]. وقال جلّ وعلا مخبرا عن قول عادٍ لهودٍ عليه السّلام:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، هذا النوع من الخوف هو الذي إذا صرف لغير الله جل وعلا كان شركا أكبر. الثّاني: الخوف الطّبيعي والجبلّي؛ وبعضهم يسمّيه الخوف الحسّي. فالأصل فيه أنّه مباح، قال تعالى عن موسى عليه السّلام:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص من: 21]، وقوله تعالى عنه أيضاً:{رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص من: 33]. وإنّما قلنا: إنّه الأصل؛ لأنّ الخوف الطّبيعيّ إن حمل على ترك واجب أو فعل محرّم دون إكراه؛ فهو محرّم. الثّالث: الخوف الوهميّ. وضابطه خوف ما لا حقيقة له، فهو سفهٌ، وحمقٌ، حكمه بحكم أثره، إن كان يؤدّي إلى شرك فهو شرك، أو إلى محرّم أو ضعف الشّخصيّة فهو محرّم. وهل الخوف من الجنّ من النّوع الأوّل أو الثّاني ؟ فيه تفصيل: فيمكن أن يكون شركا وكفرا؛ وذلك إن خافهم خوفَ السرّ بأنْ يصيبوه بشيء لا قدرة لهم عليه، كخوف المرض، والفقر، وقطع النّسل، والموت بلا سبب، ونحو ذلك. ويمكن أن يكون محرّما فحسب، كما لو حمله على ترك واجب، أو فعل محرّم. ويمكن أن يكون مباحا، وهو الخوف الطّبيعي كما يخاف من شرار بني آدم. وعلاج الخوف من الجنّ: - الإكثار من ذكر الله تعالى، فالذّكر غذاء القلوب. قال ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد" (4/60):" وأكثر تسلّط الأرواح الخبيثة تكون من جهة قلّة دينهم, وخراب قلوبهم من حقائق الذّكر والتّعاويذ والتّحصنات النبويّة والإيمانيّة, فتلقى الرّوحُ الخبيثة الرّجلَ أعزل لا سلاح معه, وربّما كان عرياناً؛ فيؤثّر فيه هذا "اهـ. - ترسيخ التّوحيد في القلب: فعلى المؤمن أن يعلم أنّ الله تعالى حافظه من كلّ سوء، وهو القائل:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرّعد: 11]. - وقاية جناب التّوحيد: فإنّ المؤمن عليه أن يخاف الوقوع في الشّرك أكثر من خوفه من الجنّي، وليحذَر من الاسترسال في ذلك، وإلاّ وقع في الشّرك الأكبر، كما سيأتي معنا في الاستعاذة. - العلم: فالجاهل عدوّ نفسه. ولا بدّ أن يعلم المسلم أنّ الجنّي لا يخلو من أن يكون كافرا، أو فاسقا، أو مؤمنا تقيّا: فالمؤمن أخو المؤمن، لا يؤذيه ولا يضرّه. والكافر والفاسق، أذلّ وأحقر من أن يخافه المؤمن، قال عزّ وجلّ:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}. وقد ثبت أنّ الشّيطان كان يخاف من عمر رضي الله عنه، فإذا سلك عمر رضي الله عنه طريقاً سلك الشّيطان طريقاً آخر. وفي صحيح البخاريّ أنّ أبا هريرة رضي الله عنه أمسك بالجنّي وهو في صورة آدميّ وخاف منه. وعن مجاهد رحمه الله قال:" إنّهم – أي الجنّ - يهابونكم كما تهابونهم.
: |