4- الرّابع: أنّها تأتي زائدة للتّوكيد، ويمثّلون لذلك بقوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشّورى: من الآية11].
قالوا: لو قيل إنّها للتّشبيه لكان الله تعالى قد نفى مثل مثله، وذلك يقتضي أنّ له مثلا، والله منزّه عن ذلك.
قال أبو الفتح ابن جنّي في " سرّ الصّناعة " (1/291)- بتصرّف يسير -:" وتكون زائدة مؤكّدة بمنزلة الباء في خبر ليس، وذلك نحو قوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، لأنّك إن لم تعتقد زيادته أثبتّ لله مِثلا، تعالى الله عن ذلك ".
وجرى على ذلك جمهور اللّغويّين، والنّحويّين وهم يشرحون قول الإمام ابن مالك رحمه الله:
( شبّه بكاف وبها التّعليل قد يأتي، وزائدا لتوكيد ورد )
[" أوضح المسالك " (3/47)، و" شرح ابن عقيل " (2/27)، و" شرح الأشموني " مع حاشية الصبّان (ج 2/224)].
وقلّ من ذهب إلى أنّه لا بأس ببقائها على أصلها الّذي هو التّشبيه، وأنّ ذلك لا يؤدّي إلى المحال الّذي رأوه، لأنّ نفيَ مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل.
قال الإمام القاسم بن الحسين الخوارزميّ في " ترشيح العلل في شرح الجمل "(ص210):
" وقيل: جاز أن تكون في الآية للتّشبيه، ولا تكون زائدة، ويكون المعنى: ليس كالله شيء، ولا يكون في هذا إثبات المِثل له تعالى، ألا ترى أنّك تقول: مثلك لا يفعل كذا، ولا تريد إثبات المثل بل تريد أنّه من كان على مثل حالك فإنّه لا يفعل ذلك ".اهـ
ومن أحسن من تكلّم عن هذه المسألة هذا الزّمان الشّيخ محمّد بن عبد الله دراز رحمه الله[1] في كتابه العجاب " النّبأ العظيم "، قال:
" أكثر أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف، بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة، فرارًا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه؛ إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية الشبيه عن مثل الله، فتكون تسليمًا بثبوت المثل" له سبحانه ...
وقليل منهم من ذهب إلى أنّه لا باس ببقائها على أصلها؛ إذ رأى أنّها لا تؤدّي إلى ذلك المحال لا نصًّا ولا احتمالًا؛ لأنّ نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضًا.
وذلك أنه لو كان هناك مثل الله لكان لهذا المثل مثل قطعًا وهو الإله الحق نفسه، فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلًا لصاحبه، وإذًا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب.
وقصارى هذا التوجيه - لو تأملته - أنّه مصحح لا مرجّح، أي: أنّه ينفي الضرر عن هذا الحرف، ولكنّه لا يثبت فائدته ولا يبيّن مسيس الحاجة إليه.
ألست ترى أنّ مؤدّى الكلام معه كمؤدّاه بدونه سواء، وأنّه إن كان قد ازداد به شيئًا فإنّما ازداد شيئًا من التكلّف والدوران، وضربًا من التعمية والتعقيد ؟
وهل سبيله إلاّ سبيل الّذي أراد أن يقول:" هذا فلان " فقال: " هذا ابن أخت خالة فلان "؟
فمآله إذًا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد، ذلك الاسم الذي لا تعرف له مسمى ها هنا؛ فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودًا البتة، وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان.
ولو رجعت إلى نفسك قليلًا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظًا بقوة دلالته، قائمًا بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته، وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى، أو لتهدم ركن من أركانه، ونحن نبين لك هذا من طريقين، أحدهما أدق مسلكًا من الآخر:
- الطريق الأول: وهو أدنى الطّريقين إلى فهم الجمهور: أنه لو قيل:" ليس مثله شيء "، لكان نفيًا للمثل المكافئ، وهو المثل التام المماثلة فحسب؛ إذ إن هذا المعنى الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه. وإذًا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام: أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها، وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء، أو للكواكب وقوى الطبيعة، أو للجن والأوثان والكهان، فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه، وشرك ما في خلقه أو أمره ..
فكان وضع هذا الحرف في الكلام إقصاءً للعالم كلّه عن المماثلة، وعمّا يشبه المماثلة وما يدنو منها، كأنه قيل: ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلًا لله، فضلًا عن أن يكون مثلًا له على الحقيقة.
وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى، على حد قوله تعالى:{ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}، نهيًا عن يسير الأذى صريحًا، وعما فوق اليسير بطريق الأحرى.
- الطريق الثاني: وهو أدقّهما مسلكًا: أنّ المقصود الأوّلي من هذه الجملة - وهو نفي الشبيه - وإن كان يكفي لأدائه أن يقال:" ليس كالله شيء "، أو:" ليس مثله شيء "، لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة، بل إنّها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجّته، وطريق برهانه العقلي.
ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت:" فلان لا يكذب ولا يبخل "، أخرجت كلامك عنه مخرج الدّعوى المجرّدة عن دليلها. فإذا زدت فيه كلمة فقلت:" مثل فلان لا يكذب ولا يبخل "، لم تكن بذلك مشيرًا إلى شخص آخر يماثله مبرّأً من تلك النقائص، بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلّي، وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك؛ لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم.
على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة:" مثله تعالى لا يكون له مثل ". تعني أنّ من كانت له تلك الصّفات الحسنى، وذلك المثل الأعلى، لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه. فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنًا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانًا.
فالتشبيه المدلول عليه "بالكاف" لمّا تصوّب إليه النفي تأدَّى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ " المثل " المصرّح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب...
أرأيت كم أفدنا من هذه "الكاف" وجوهًا من المعاني كلها شاف كاف ؟
فاحفظ هذا المثال، وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظم الحكيم حرفًا حرفًا "اهـ.
[" النّبأ العظيم " (ص 132-136) بتصرّف].
[1]/ هو الأستاذ الدكتور محمد بن عبد الله دراز العالم الأزهري، الأديب من هيئة كبار العلماء بالأزهر، ولد بمصر بمحافظة كفر الشيخ (1312هـ/ 1894م)، وتُوفي رحمه الله في باكستان أثناء حضوره المؤتمر الإسلامي سنة 1958 م.