هذه هي العواطف .. لا تجد صدى إلاّ عند أهل الأهواء ..
ولكنّها ما سألت قط عن أبي طالب نفسه: هل كان إدراكُه في مستوى هذه الحميّة ؟
هل خدم نفسه كما خدم الإسلام ؟.. هل سمَتْ روحه إلى المكان الّذي سمَت إليه أرواح من كان يدافع عنهم ؟
عشر سنوات مضت .. وهو يستمع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يشرح له، ويوضّح له .. كان يستمع إلى كلام الله ومياه الوحي تسيل في أذنيه منذ أشرق الوحي .. في أندية مكّة .. في بيت ابن أخيه .. بل في بيته .. في شعبه .. وعلى فراش الموت !
لكنّه خاف تعيير قريش، وأن يكتب تاريخُ العرب اسمَ أبي طالب ممّن تخلّوا عن سبيل آبائهم ..
إنّه لم يكن واثقا من وعد الله يوم قال:" لولا أن تعيّرني قريش يقولون: إنّما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك " !
ما كانت تلك الكلمات تجد طريقا إلى قلبه لو وجدت إرادة قويّة ..
إنّ الحميّة هي الّتي حرّكته، وهي الّتي منعته ..
من أجلها تحرّك، ومن أجلها قاتل، ومن أجلها تحمّل الحبس ..
لا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا .. فجهل أنّ الدّين دين الله عزّ وجلّ، وأنّ الإسلام لله جلّ جلاله، لا لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فكما قال تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: من الآية144]..
نعم، لقد دافع عن الدّين .. ولكنّ هذا الدّين ماضٍ بأبي طالب أو بغير أبي طالب..
وإنّ الله لينصر هذا الدّين بالرّجل الفاجر من باب قوله تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: من الآية251]..
ثمّ إنّه قد نال أجره؛ فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ )).
لم يكن لله عزّ وجلّ مكانٌ في قلب أبي طالب، فلم يجعل الله له مكانا عنده.
عليّ رضي الله عنه يؤكّد ذلك:
الحقّ يعلو على كلّ شيء .. هذا ما أدركه فتَى الإسلام عليّ رضي الله عنه، الّذي علم أنّ أباه بطل، وشهم، وشجاع، وكريم، ولكنّ شأنه شأن حاتم الطّائي في الكرم، وعنترة في البطولة.
غاية ما في الأمر أنّه كان عوناً لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فأكرم الله نبيّه تطييبا لخاطره أن يجعل أبا طالب في ضحضاح من نار.
ولا شكّ أنّ عليّا رضي الله عنه شعر بالأسى على أبيه، ولا شكّ أنّه دعاه إلى الإسلام .. ولكنّ أباه مات دون أن يقرّ عينه بكلمة الإسلام ..
روى أحمد عن عليٍّ رضي الله عنه قال: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْتُ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضّالّ قَدْ مَاتَ.
قَالَ: (( اذْهَبْ فَوَارِهِ، ثُمَّ لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ))، قَالَ: فَوَارَيْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، قَالَ: (( اذْهَبْ فَاغْتَسِلْ، ثُمَّ لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي )).
قال: فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَدَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمْرَ النَّعَمِ وَسُودَهَا.
العبر من هذه الحادثة الفاجعة:
أ) أنّ الدّين لله لا لغيره ولو كان نبيّا..
ب) وأنّ الصّاحب ساحب، ومن خالط الكرام يكرم، ومن صاحب اللِّئام يُحرم، حيث إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يعرِض عليه التّوحيد، وأبو جهل ومن معه يمنعانه منه !
ت) وأنّ العصبيّة داء قاتل، ما له حائل ..
ث) وأنّ الله ينصر هذا الدّين بالرّجل الكافر..
ج) وأنّ مكان العبد عند الله على قدر مكانة الله في عنده.
ح) وأنّ أهل الحقّ لا يُعرَفون بالمواقف البطوليّة فقط، ما لم يصحب موقفهم إخلاص وصواب.
خ) وأنّ العمل الصّالح إن لم يصحبه إيمان مصيره:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]..
واستمع إلى ما رواه مسلم عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ابْنُ جُدْعَانَ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ ؟ قَالَ: (( لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )).
د) وأنّه لا بدّ من النّطق بالشّهادة: ولا يكفي مجرّد التّصديق بها، لذلك كان أهل السنّة يشترطون النّطق بالإيمان:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]..
وهل تظنّ أنّ عام الحزن سمّي بذلك لأجل موت هذين العمودين فحسب ؟ كلاّ، فقد جاءت الموجة الهائلة الّتي أصابت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الصّميم، وكانت أشدّ عليه من الحميم.
روى البيهقي بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَةً[1] حَتَّى تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ )..
قال ابن إسحاق رحمه الله:
" فلمّا هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتّى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا ... فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيته، والتّراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التّراب، وهي تبكي، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لها: (( لاَ تَبْكِي يَا بُنَيَّهْ ! فَإِنَّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاكِ )).
أين المفرّ أيّها النبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم ؟!
إلى الطّائف .. وهذا ما سوف نراه لاحقا إن شاء الله.