وذلك تنويها بمكانته، وإشارة إلى نبوّة صفوة خلقه، فقد قال عزّ وجلّ:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)}، وما كان الله ليُقسم إلاّ بمعظّم لديه، وبمفضّل إليه.
وهذه الأقسام الثّلاثة إنّما هي إشارة إلى الأمكنة الثّلاثة المعظّمة، الّتي أرسل الله فيها أعظم أنبيائه ورسله الكرام، من أصحاب الشّرائع العظام، والأمم المميّزة بين الأنام:
فالقَسَم الأوّل: تناول الشّجرتين المباركتين، ومنبتهما هو بيت المقدس، منبتُ عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى ابن مريم عليه السّلام.
والقَسَم الثّاني: تناول طور سينين، وهو جبل طور سيناء مبعث عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السّلام، فإنّه الجبل الّذي كلّمه عليه وناجاه.
ثمّ أقسم عزّ وجلّ بالبلد الأمين: وهو مكّة، مبعث خاتم أنبيائه ورسله، سيّد ولد آدم.
وقد أقسم الله تعالى بالبلد الحرام في موضع آخر، فقال:{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)}..
و كيف سمّاه أمينا ؟ ذلك هو الوجه الثّاني من وجوه تعظيمه:
2- أنّ الله حباه ببركة الأمن:
فكان النّاس ولا يزالون يُتخطّفون من حوله، وأهله مطمئنّون آمنون، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67].. وقال في آية أخرى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: من الآية57].. وقال ممتنّا على قريش:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش].
وقد استقرّ ذلك في نفوس أهل الجاهليّة، حتّى كان الرّجل يلقى قاتلَ أخيه أو قاتل أبيه ويُعطيه الأمان الّذي له تعظيما للحرم.
ولذلك كان محرّما على المسلم أن يقتل الجانـي الفارّ إلى الحرم، فكلّ من جنى جناية تستوجب القتل، ثمّ فرّ إلى الحرم وجب الكفّ عنه، ولكن يُضيّق عليه ليخرج، فلا يباع شيئا ولا يعامل، إلاّ من بغى بها، فإنّه يقتل بالحرم، قال تعالى:{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية191].
( تنبيه ) وإن تساءلت عن حديث سعْدِ بنِ أبي وقّاصٍ رضي الله عنه قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم النَّاسَ، إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: (( اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي السَّرْحِ )).
فاعلم أنّ ذلك خاصّ به صلّى الله عليه وسلّم، لعِظم مكانته، فهؤلاء ما حكم عليهم بهذا الحكم إلاّ لأنّهم كانوا يشتمونه ويسبّونه.
ومع ذلك فإنّ الله ما أباحها له إلاّ في ذلك اليوم فحسب، روى البخاري ومسلم عن أبي شُرَيحٍ الخزَاعِيّ قال: قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ:
(( إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ )).
كلّ ذلك، ببركة دعوة إبراهيم عليه السّلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة: من الآية126].
3- أنّ الله قد حباه ببركة الرّزق:
قال تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: من الآية57].
فإنّ من تمام الأمن هو توفير الرّزق، وإلاّ لاقتتل النّاس لأجل الدّرهم والدّينار. وكيف لا تكون مكّة كذلك وهي منزل ضيوفه ووفدِه إليه، والمقبلين عليه ؟
كيف لا تكون كذلك ودعوة إبراهيم لا تزال تُتلى على كلّ لسان:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية126]..
4- أنّ الله اختار مكّة لتكون موضع البيت الحرام:
قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] وجعله منسكاً لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من كلّ فجّ عميق، فلا يدخلونه إلاّ متواضعين خاشعين متذلّلين، كاشفي رؤوسهم عن لباس أهل الدّنيا متجرّدين.
فلو لم يكن البلد الأمين خيرَ بلاده، وأحبّها إليه، لما جعل عرصاتِها مناسكَ لعباده، وجعل قصدها من أوكد فرائض الإسلام.
فليس على وجه الأرض بقعة يجب على كلّ قادر السّعي إليها، والطّواف بالبيت الّذي فيها، غير مكّة.
5- أنّه أحبّ البلاد إلى الله:
جاء في مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي عن عبدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الحمراءِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ مِنْ مَكَّةَ يَقُولُ لِمَكَّةَ: (( وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ )).
6- أنّ من خصائص مكّة كونها قبلةً لأهل الأرض:
فليس على وجه الأرض قبلةٌ غيرُها، قال تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: من الآية144].
قال أهل العلم: أهل المسجد الحرام يستقبلون البيت، وأهل مكّة يستقبلون المسجد الحرام، ومن كان خارج مكّة يستقبل مكّة.
7- ومن خصائصها أنّه بلد أعظم شعائر الله:
فما عُظِّم مكانٌ كما عُظّم عرفة، حتى إنّ الله تعالى ليدنو من عباده يباهي بهم ملائكته.
ثمّ انظر إلى مِـنىً .. فتحْوِي أعظم الأيّام عند الله، روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تبارك وتعالى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ )).
ثمّ انظر إلى تلك الشّعائر: الطّواف ببيت الله، والسّعي بين الصّفا والمروة، وتقبيل الحجر الأسود، والصّلاة خلف مقام إبراهيم، والشّرب من ماء زمزم، ورمي الجمار، فموضع كلّ ذلك البلد الحرام.
8- وممّا يدلّ على تفضيلها أنّ الله تعالى أخبر أنّها أمّ القرى:
قال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:من الآية92]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
فهي أصل القرى، والقرى كلّها تبعٌ لها، وفرعٌ عنها، فيجب ألاّ يكون لها في القرى عديل، فهي كالفاتحة سمّيت أمّ القرآن، ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل.
9- أنّ الله جعل مكانه وقفا لجميع المسلمين: فلا يملكه أحد.
قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
لذلك كان مذهب جمهور أهل العلم أنّه يحرُم بيع دياره وإجارتها، أي: ما زاد عن حاجة أصحابها في السّكنى حرًم عليهم بيعه وإجارته.
وكان عمر رضي الله عنه ينهى أيّام الموسم أن تُغلق بيوت مكّة.
وقد ظهر سرّ هذا التّفضيل، في انجذاب الأفئدة إليه، وإقبال القلوب عليه، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد.
ولهذا قال سبحانه:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: من الآية125] مثابة للنّاس: أي يثوبون ويرجعون إليه ..
فللّه كم لهذا البيت من قتيل وسليب وجريح ! وكم أنفق في حبّها من الأموال والأرواح ! ورَضِي المحبّ بمفارقة فلْذَات الأكباد والأهل والأحباب والبلاد ! مقدِّما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاقّ ! وهو يستلذ ذلك كلّه ويستطيبه:
( وليس مُحِبّا من يَعُدُّ شقاءه *** عذاباً إذا ما كان يَرضَى حبيبُه )
ورحم الله من قال:
أطْوِل به والنّفس بعد مشوّقـة *** إليه وهل بعد الطّواف تدانـي
وألثم منه الرّكن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هـيمـان
ما كان صدّي عنك صدّ ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولسـانـي
دعوت الصّبر بعـدك والبكـا *** فلبّى البكاء والصّبر عنك عصاني