مصادر وأصول الإمام مالك رحمه الله في العقيدة.
فقد جعل الإمام مالكٌ رحمه الله أصوله في الاعتقاد كتاب الله تعالى، وسنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما أجمع عليه سلف الأمّة.
1- أمّا القرآن الكريم: فحرِيٌّ بمن ينتسبون إلى الإمام مالك رحمه الله أن يجعلوه إمامَهم في شدّة اعتنائه بالقرآن، علما وعملا، في الأصول والفروع، لا أن يكون كتاباً يُقصَد للتبرّك فحسب !
فنرى الإمام مالكاً رحمه الله يعقِد في " الموطّأ " كتابا كبيرا سمّاه:" كتاب القرآن"، وضمّنه آدابَ التّلاوة، وكيف حُزّب القرآن ؟ واختلاف القراءات، وكيف نزل القرآن ؟، وبعض أسباب النّزول، وسجود القرآن، وأذكار القرآن، وقيام اللّيل بالقرآن، وغير ذلك.
ولا يخفى جزؤُه في التّفسير الّذي يرويه خالد بن عبد الرّحمن المخزوميّ رحمه الله.
وصنّف مكّي بن أبي طالب رحمه الله كتابا فيه ما يُروَى عن الإمام مالكٍ في التّفسير ومعاني القرآن.
حتّى إنّ أبا عمرو الدّاني رحمه الله ذكره في طبقات القرّاء، وأنّه تلا القرآن على نافع رحمه الله.
ومن درس حياة الإمام أدرك أنّه كان يعيش بالقرآن في علمه وعمله؛ فقد تواتر عنه قولُه:" القرآن هو الإمام "، وحكى عنه أهل بيته أنّه كان يستمتع بتلاوة القرآن.
2- أمّا السنّة النّبويّة: فهو حامل لوائها، وناشر رايتها.
يقول الإمام الذّهبي رحمه الله في "السّير":" كان أعلم أهل المدينة في زمانه "، وقال:" كان عالما إماماً في نقد الرّجال حافظا مجوّدا متقنا ".
وذكر عن الشّافعيّ رحمه الله قولَه:" إذا ذُكِر العلماء فمالكٌ النّجم "، وقولَه:" كان مالكٌ إذا شكّ في حديثٍ طرحَه ".
وعن سفيان بن عُيينة رحمه الله قولَه:" مالك عالم أهل الحجاز، وهو حجّة زمانه ".
ولا يخْفَى على أحدٍ موقِفَه في محنة المنصور، وكيف ثبت حين منعه من الإفتاء بما دلّت عليه السنّة أنّ يمين المُكرَه لا تنعقد.
وكان يردّد قولته المشهورة:" السنّة سفينة نوح عليه السّلام، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرِق " [رواه الهرويّ في "ذمّ الكلام"].
3- أمّا مذهب السّلف وإجماعهم: فهو رحمه الله ما ألّف الموطّأ إلاّ للذّود عن حياضه والصدّ من زحف الجهميّة وأهل الرّأي.
فكان تلميذا لأئمّة السنّة أمثال: هشام بن عروة، والزّهري، وربيعة بن عبد الرّحمن، وعطاء الخراساني، وسهيل بن أبي صالح، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.
فكان رحمه الله لا يعمل بشيءٍ لم يُحفظ عن السّلف، حتّى كان من أصوله المشهورة عمل أهل المدينة.
وقد ذكر الشّاطبيّ رحمه الله في "الاعتصام" أنّ مؤذّنا كان إذا همّ بأذان الفجر تنحنح، فقال له الإمام مالك رحمه الله:" لا تُحدِث في بلدنا شيئا لم يكُن فيه ".
قال ابن الماجشون رحمه الله: سمعت مالكا رحمه الله يقول:" من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً، فقد زعم أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم قد خان الرّسالة، فإنّ الله يقول:{اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً}، وما لم يكُن يومئذٍ دينا، فليس هو اليوم ديناً ".
ويتّضح تعظيمه لمذهب السّلف من خلال موقفه من الرّأي.
موقفه رحمه الله من الرّأي:
قال الشّاطبي رحمه الله في "الاعتصام":" قال مالك: قُبِض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد تمّ هذا الأمرُ واستكمل، فينبغي أن تُتّبع آثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ولا يُتّبَع الرّأي؛ فإنّه من اتّبع الرّأيَ جاءه رجلٌ أقوى في الرأي منه فاتّبعَه ! واعملوا بما جاء عن جابرٍ رضي الله عنهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ اِعْتَصَمْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَداً: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ ))"اهـ.
وذكر الذّهبي رحمه الله في "السّير":" عن مطرّف بن عبد الله قال: سمعت مالكا يقول: سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووُلاةُ الأمور بعده سُنناً، الأخذُ بها اتّباعٌ لكتاب الله، ليس لأحدٍ تغييرُها ولا تبديلها، ومن تركها اتّبع غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولّى، وأصلاهُ جهنّم وساءت مصيرا "اهـ.
وفي "السّير" أيضا عن إسحاق بن عيسى قال: قال مالك: أفكلّما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم لجدله !؟".
وفيه أيضا عن الشّافعيّ رحمه الله قال: كان مالك إذا جاءه بعضُ أهل الأهواء قال: أمَا إنّي على بيّنةٍ من ديني، وأمّا أنت فشاكٌّ، اِذهبْ إلى شاكٍّ مثلِك فجادله.
هذا هو منهج الإمام مالك رحمه الله في الاعتقاد، أمّا ما نُقِل عنه في مسائل عقيدة، فنأتي عليه إن شاء الله في المحاضرة الثّانية.
والله الموفّق لا ربّ سواه.