الشّرح:
يدلّ هذا المبحث على شدّة اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم، حتّى ضبطوا أوّل ما نزل منه وآخر ما نزل، إعلاما للعالمين أنّه إذا لم يضِعْ منهم تفاصيل نزول القرآن الكريم، فكيف بآياتِه وحروفه ؟
1- أوّل ما نزل من القرآن:
أصحّ الأقوال والّذي عليه جمهور الأمّة أنّ أوّل ما نزل من القرآن الكريم هي الآيات الخمس الأُوَل من سورة العلق، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي.
ففي الصّحيحين عنها قالت:" أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.
ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ.
فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ:{اقْرَأْ}، قالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ! قال: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:{اقْرَأْ}، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ! فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فقالَ:{اقْرَأْ}، فقلتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيلِدٍ رضي الله عنها، فقال: (( زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي )).
فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فقالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: (( لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي !)) فقالتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فقالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابنِ أَخِيكَ.
فقالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ! لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ! فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ )) قال: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
( فصل في بيان ما يخالف هذا القول )
- هناك من قال: إنّ أوّل ما نزل من القرآن سورة المدّثر.
واعتمدوا ما رواه الشّيخان أيضا عن أبِي سَلَمَةَ بن عبد الرّحمن قال: سأَلْتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ قال:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، فقلتُ: أَوْ {اقْرَأْ} ؟ فقالَ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ:
(( جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي ! وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، قال: فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فنزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.
والجواب عن ذلك أنّ الأوّليّة نسبيّة: فأوّل ما نزل من القرآن على الإطلاق {اِقْرَأْ}، وأوّل ما نزل بعد فترة الوحي الّتي تحدّثت عنها عائشة رضي الله عنها في حديث بدءِ الوحي {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِرُ}.
فقد جاء في صحيح البخاريّ عن أبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرّحمنِ أنّ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم - وهو يحدِّثُ عنْ فَتْرَةِ الوَحيِ: (( بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَفَرِقْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُوهُ، فأنْزَلَ الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ}.
- أمّا ما ذكروه من أنّ أوّل ما نزل من القرآن سورة الفاتحة، فهو حديث لا يصحّ.
2- آخر ما نزل:
أ) منهم من قال: آية الكلالة في النّساء؛ لما رواه الشّيخان عن البَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه قال:" آخِرُ آيَةٍ نَزَلتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}.
ب) ومنهم من قال: آية الرّبا؛ لما أخرجه البخاري عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" آخر آية نزلت آية الرّبا ".
ج) ومنهم من قال: قولُه تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ}.
أخرجه النّسائي في " التّفسير " والطّبريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه، قالوا: عاش النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد نزولها تسعَ ليالٍ، ثمّ مات.
قال السّيوطي في "الإتقان":" ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا {وَاتَّقُوا يَوْماً} وآية الدّين؛ لأنّ الظّاهر أنّها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف؛ ولأنّها في قصّة واحدة ... وقول البراء: آخر ما نزل {يَسْتَفْتُونَكَ} أي: في شأن الفرائض ".
- أمّا ما جاء في "المستدرك" عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: آخر آية نزلت:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السّورة، فهو لا يصحّ؛ من أجل عليّ بن زيد بن جدعان.
ومن صحّحه فقد حمله على أنّه قصد ما نزل من الطٍّوال، حيث إنّ غالب سورة التّوبة نزل بعد غزوة تبوك في العام التّاسع، وقد روى البخاري ومسلم عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ اللهَ عزّ وجلّ تَابَعَ الْوَحْيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ.
- وأمّا ما رواه التّرمذي عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو رضي الله عنهما قال:" آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ المَائِدَةُ "، فهو أثر ضعيف.[1]
ولو صحّ هذا الأثر لحُمِل على السّورة المتضمّنة للحلال والحرام الّذي لم يُنسخ، فقد روى أحمد[2] عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قالت:" فَإِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ "، قال: وَسَأَلْتُهَا عنْ خُلُقِ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ؟ فقالتْ رضي الله عنها: "الْقُرْآنُ".
- وأمّا ما أخرج مسلم عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}، فقد كانت نعيا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فهذا محمول على أنّها آخر سورة، لا آخر ما نزل على الإطلاق.
والله أعلم.
[1] فيه حييّ بن عبد الله بن شريح، قال الإمام أحمد:" أحاديثه مناكير "، وقال البخاري:" فيه نظر " !، وقال النّسائي:" ليس بالقويّ "، ومن وثّقه هو ابن معين وقال:" ليس به بأس "، وقال ابن عديّ:" أرجو أنّه لا بأس به إذا روى عنه ثقة ".
ولا شكّ أنّ الجرح هنا مقدّم لأنّه مفسّر كما في كلام الإمام أحمد رحمه الله.
[2] وقد رواه الحاكم أيضا وقال:" صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرجاه "، ووافقه الذّهبي، ولكن في هذا نظر، بل هو من رجال مسلم فحسب، وعن الحاكم رواه البيهقيّ.