ولا يختلف اثنان أنّ المقصود بـ( الكِتَابِ الَّذِي نُزِّلَ عَلَى رَسُولِهِ ) هو القرآن الكريم، وأنّ الكتاب ( الَّذِي أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) هو التّوراة والإنجيل وسائر الكتب السّماويّة.
ولكنّ الله جلّ وعلا أخبر عن القرآن بأنّه (منزّل)، وعن غيره بأنّه (منْزَل)، للإشارة إلى ما يُعرف في علوم القرآن بالإنزال والتّنزيل.
قال الإمام الآلوسي رحمه الله:
" واستعمال (نزّل) أوّلا و(أنزل) ثانيا، لأنّ القرآن نزل مفرّقا بالإجماع، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصّحيح وليس كذلك غيره من الكتب ".
وهذا الّذي عليه جمهور العلماء: أنّ القرآن له نزولان:
1- النّزول الأوّل: كان إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا.
ويدلّ على هذا النّوع دليلان اثنان:
- · الدّليل الأوّل: من القرآن الكريم:
وهو قوله سبحانه:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان:3]، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: من الآية185].
قال الإمام الزّرقاني رحمه الله "مناهل العرفان" (33-34):
" دلّت هذه الآيات الثّلاث على أنّ القرآن أنزل في ليلة واحدة توصف بأنّها مباركة أخذا من آية الدّخان، وتسمّى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة.
وإنّما قلنا ذلك جمعا بين هذه النّصوص في العمل بها ودفعا للتّعارض فيما بينها.
ومعلوم بالأدلّة القاطعة ... أنّ القرآن أنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مفرّقا، لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددا، فتعيّن أن يكون هذا النّزول الّذي نوّهت به هذه الآيات الثّلاث نزولا آخر، غير النّزول على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم "اهـ.
- · الدّليل الثّاني: آثار صحيحة عن حبر الأمّة وبحرها عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه.
- الأثر الأوّل: ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/223) وصحّحه، ووافقه الذّهبي، وابن أبي شيبة في "المصنّف" (10/533) بسند صحيح من طريق حسّان بن حريث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال:
" فُصِلَ القُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ [أي: اللّوح المحفوظ]، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ العِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عليه السّلام يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ".
- الأثر الثّاني: ما أخرجه النّسائي في "جزء في فضائل القرآن" (ص 59)، والحاكم (2/222) وصحّحه ووافقه الذّهبي، والبيهقيّ في "الأسماء والصّفات" (ص 303-304) من طريق داود بن أبي هند [وهو ثقة متقن]، عن عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال:
" أُنْزِلَ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً "، ثمّ قرأ:{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان (33)] {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106].
- الأثر الثّالث: ما أخرجه الحاكم (2/530)، والبيهقيّ في "دلائل النبوّة" (7/31) و"الأسماء والصّفات" (ص 303)، وغيرهما من طريق منصور بن المعتمر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال:
" أُنْزِلَ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَكَانَ اللهُ يُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِهِ بَعْضَهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ ".
- الأثر الرّابع: ما أخرجه ابن مردويه والبيهقيّ عنه رضي الله عنه بسند فيه ضعف أنّه سأله عطيّة بن الأسود فقال:
أوقع في قلبي الشكّ قولُه تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْءَانُ}، وقوله عزّ وجلّ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}، وهذا أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجّة، وفي المحرّم، وصفر، وشهر ربيع ؟ فقال ابن عبّاس رضي الله عنه: "إِنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ رَسْلاً فِي الشُّهُورِ وَالأَيَّامِ ".
[رسلا: أي رفقا، وعلى مواقع النّجوم: أي على مثل مساقطها، وهو تعبير يريدون منه الأيّام والشّهور].
وقد صحّحها الحاكم كما رأينا، ووافقه الذّهبي، وبمثل ذلك ابن تيمية - كما في في "المجموع" (12/126)، و(15/223)، و(16/307)-، والحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/4)، والسّيوطي في "الإتقان" (ص 117)، والزّركشي في "البرهان" (ص 228).
قال الزّرقاني رحمه الله:
" هذه أحاديث كلّها صحيحة ... وهي أحاديث موقوفة على ابن عبّاس غير أن لها حكم المرفوع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما هو مقرّر من: أنّ قول الصّحابيّ فيما لا مجال للرّأي فيه، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليّات حكمه حكم المرفوع.
ولا ريب أنّ نزول القرآن إلى بيت العزّة من أنباء الغيب الّتي لا تعرف إلاّ من المعصوم، وابن عبّاس رضي الله عنه لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليّات، فثبت الاحتجاج بها "اهـ.
بل نقل القرطبيّ - كما في "الإتقان" للسّيوطي (1/117) - الإجماعَ على ذلك.
وهذا كلام صحيح إذا استحضرنا أنّ قول الصّحابي الّذي لا يُعلم له مخالف يعدّ إجماعا منهم.
وقد نُقِل الخلاف بعدهم في ذلك، فقيل بقولين آخرين:
- فهناك من قال: إنّ المراد من الإنزال: هذا بداية نزوله كان ( ليلة القدر )، ثمّ نزل مفرّقا، ونُسِب هذا القول إلى الشّعبي رحمه الله.
وهو قول قويّ، إلاّ أنّه يُردّ من أوجه ثلاثة:
الأوّل: أنّ أثر الشّعبي رحمه الله رواه عنه الطّبري (30/166) بإسناد ضعيف، ففيه:
أ) عمران أبو العوّام، وهو صدوق يهم، كما في "التّقريب" (2/83).
ب) وفيه عمرو بن عاصم الكلابي، فهو صدوق في حفظه شيء، كما في "التّقريب" (2/72).
الثّاني: أنّ الثّابت عن الشّعبي هو ما يوافق الجمهور، رواه عنه الطّبري بإسناد صحيح.
الثّالث: أنّه مخالف لما ذكره ابن عبّاس رضي الله عنه، وأقوال الصّحابة هي الحجّة في كلّ باب عند انعدام النّصوص.
- وهناك قول ثالث: وهو أنّه نزل إلى السماء الدّنيا في ثلاث وعشرين ليلةِ قدر، في كلّ ليلة ينزل ما يقدّر الله إنزاله تلك السّنة.
وهذا القول ذكره فخر الدّين الرّازي، ونقله القرطبيّ عن مقاتل بن حيّان. وقال السّيوطي: وممّن قال بقول مقاتل: الحليميّ، والماورديّ.
وهذا القول مدفوع أيضا بمذهب الصّحابيّ.
فإن قيل:
ما الحكمة من نزوله جملة واحدة ؟
أ- ذكر السّيوطي نقلا عن أبي شامة في بيان حكمة ذلك فقال:
" هي تفخيم أمرِ القرآن، وأمرِ من نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم، بإعلام سكّان السّموات السّبع أنّ هذا آخر الكتب المنزّلة على خاتم الرّسل لأشرف الأمم، وبإنزاله مرتين مرة جملة ومرة مفرقا، بخلاف الكتب السّابقة فقد كانت تنزل جملة مرة واحدة ".
ب- تعظيم أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
فائدة: قول ابن عبّاس رضي الله عنه:" فُصِلَ القُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ العِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ..."، يدلّ على أنّ بيت العزّة إنّما هو في هو في السّماء الدّنيا.
وهو غير البيت المعمور الّذي أقسم الله به في سورة الطّور قائلا:{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)}.
ومنه حديث ما رواه البخاري عن مالكٍ بنِ صعصَعَةَ رضي الله عنه في حديث المعراج الطّويل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ )) الحديث.
وروى أحمد والحاكم وغيرهما عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الْبَيْتُ المَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ مَلَكٍ، ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ )).[صحّحه الشّيخ الألبانيّ في " السّلسلة الصّحيحة " (1/778)].
فهو كعبة أهل السّماء السّابعة؛ ولهذا وجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إبراهيم الخليل عليه السلام، مسنِدا ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنّه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل [انظر: " تفسير ابن كثير "].
أمّا بيت العزّة: فهو البيت الّذي في السّماء الدّنيا.
وقد روى الطّبريّ عن بعض السّلف أنّ في كلّ سماء بيتا حيال الكعبة، فالّذي في السّماء السّابعة يقال له البيت المعمور، والّذي في السّماء الدّنيا يقال له بيت العزّة.
2- النّوع الثّاني من أنواع نزول القرآن: نزوله مفرّقا حسب الحوادث.
وهذا ممّا لا خلاف فيه بين علماء الإسلام؛ لتصريح القرآن الكريم بذلك:
قال الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } [الفرقان: 32)].
ولهذا النّوع من النّزول حكمٌ عظيمة، منها:
1- تثبيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفق الأحداث والوقائع؛ للآية السّابق ذكرُها {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.
2- التّمكين من حفظه وفهمه وتدبّره، قال تعالى:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106].
3- إظهار الإعجاز في كلّ مرّة، ممّا يجدّد للقرآن قرعه للأسماع، ويجدّد نصر الإيمان، وحسرة أهل الشّرك والكفران.
4- دفع التّهمة عن القرآن من كونه كلامَ بشر قد أُتقِن وأُحكم مدّة، فإذا نزل حسب الواقعة دلّ على أنّه من عند الله، إذ ما كان يأتي به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على هذا النّحو ارتجالا.
5- التدرّج في تربية هذه الأمّة وتشريع الأحكام لها، ولو نزلت الأحكام جملة واحدة لنفرت النّفوس، واشمأزّت القلوب.
6- مسايرة الحوادث، وذلك ببيان ما يُشكل عليهم، والإجابة عن تساؤلاتهم، وكشف كيد الأعداء والمخالفين.
7- قال ابن كثير في تفسيره لآية الفرقان:
" في هذا اعتناء كبير لشرف الرّسول صلوات الله وسلامه عليه، حيث كان يأتيه الوحي من الله بالقرآن صباحا ومساء، ليلا ونهارا، سفرا وحضرا.
فكلّ مرّة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال الكتاب ممّا قبله من الكتب المتقدمة، فهذا المقام أعلى وأجلُّ، وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أعظم نبي أرسله الله، وقد جمع الله تعالى للقرآن الصفتين معا:
ففي الملأ الأعلى أنزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
ثم نزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث "اهـ.
3- النّوع الثّالث من أنواع نزول القرآن: نزوله إلى اللّوح المحفوظ.
كلّ ما سبق بيانه لا ينافي أنّ القرآن أوّل ما نزل إنّما أنزل إلى اللّوح المحفوظ، كما قال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج].
وقال عزّ وجلّ:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة].
وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}، وقال:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4].
قال ابن تيمية رحمه الله وهو يبيّن ذلك - كما في " المجموع "(12/127)-:
" فإنّ كونه مكتوبا في اللّوح المحفوظ وفي صحف مطهّرة بأيدي الملائكة، لا ينافي أن يكون جبريل عليه السّلام نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل عليه السّلام، أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزّة جملة واحدة في ليلة القدر، فقد كتبه كلّه قبل أن ينزّله " اهـ.
والله أعلم.