الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
فنسأل الله لنا، ولوالدتك، ولسائر موتى المسلمين الرّحمة والمغفرة، وأن يجعلها من الفائزين بجنّة النّعيم، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
أمّا فيما يخصّ سؤالك، فهو ذو شقّين:
- * الشّق الأوّل: كيف يمكن البرّ بالوالدة رحمها الله بعد وفاتها ؟
فاعلم أنّ ذلك واسع ولله الحمد والمنّة، من ذلك:
1- كثرة الدّعاء والاستغفار لها:
فالميّت لا ينتظر من عالم الأحياء إلاّ دعوة صالحة، يوسّع الله بها عليه مدخله، ويكرم بها نزله.
وقد روى مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )).
قال أبو حنيفة رحمه الله:" ما سجدت سجدةً إلاّ دعوت فيها لوالديّ وحمّاد بن أبي سليمان "، يقصد شيخه رحمه الله.
2- إمضاء وصيّتها، وإنفاذ عهدها:
- سواء كانت عهِدت بحقوق عليها، كديون، وزكاة، وحجّ أو عمرة، ونذور، وكفّارات، وغير ذلك.
أو عهِدت وأوصَت بواجبات ترجو منكم الحرصَ عليها، كتآلف أولادها، وقيام بعضهم على بعض، والتّطاوع فيما بينهم.
فليس هناك شيء يؤذي الوالدين كأن يريا صراعا دائرا بين أولادهم وفلذات أكبادهم.
3- صلة رحمها:
فهي حقّ من حقوق الوالدين أيضا، لأنّك إن وصلت رحمك فقد وصلت والديك أيضا، لأنّهما سببا هذه الرّحم.
4- إكرام صديقاتها:
فقد روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إنّ أبَرَّ البرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أبيهِ )).
وروى أيضا عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رَجُلاً مِنَ الأعْرَابِ لَقِيَهُ بطَريق مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ عبدُ الله ابْنُ عُمَرَ، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأسِهِ، قَالَ ابنُ دِينَار: فَقُلْنَا لَهُ: أصْلَحَكَ الله، إنَّهُمُ الأعرَابُ وَهُمْ يَرْضَوْنَ باليَسير، فَقَالَ عبد الله بن عمر: إنّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدّاً لِعُمَرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، وإنِّي سَمِعتُ رَسُول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( إنَّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ )).
5- الصّدقة عنها:
ففي صحيح البخاري عن ابن عبَاس رضي الله عنهما أنّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رضي الله عنه: تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا ؟
قَالَ: (( نَعَمْ )).
قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا.
وعند النّسائي وغيره بسند حسن عن سعد بن عبادة قال: قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا ؟ قَالَ: (( نَعَمْ ))، قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: (( سَقْيُ الْمَاءِ )).
- * الشّق الثّاني: أمّا كيفية الدّعاء لها عند القبر:
- فسرًّا لا جهرا، أي: تُسمع نفسك، فإنّ الجهر بالدّعاء من الاعتداء في الدّعاء.
- وتستقبل القبلة، لا القبر.
وإنّ استقبال القبلة من مظانّ الإجابة، لما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْكَعْبَةَ، فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ: عَلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى قَدْ غَيَّرَتْهُمْ الشَّمْسُ وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا ".
وروى البخاري أيضا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه " أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى يُصَلِّي – أي في الاستسقاء – وَأَنَّهُ لَمَّا دَعَا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ".
والله أعلم وأعزّ وأكرم.