- شرح الأصول الثّلاثة (03) منزلة العمل والدّعوة والصّبر
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
قوله رحمه الله: ( بالأدلّةِ ).
والأدلّة جمع دليل، وهو المرشِد إلى المطلوب، ومنه الدّليل الّذي يدلّ على الطّريق.
ودين الإسلام مبنيّ على الدّليل كما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، فالدّليل هو المرشد إلى الصّراط المستقيم، المبنيّ على العمل بعلم، خلافا للنّصارى الّذين عبدوا دون علم، فضلّوا وأضلّوا كثيرا، وضلّوا عن سواء السّبيل.
أمّا من علم ولم يعلم فسيأتي بيانه عند ذكر الشّيخ للأصل الثّاني، وهو: العمل بالعلم.
وقفة مع اشتراط معرفة الدّليل في العقائد:
واشتراط المعرفة بالأدلّة هو الأصل، وذلك على القادر على طلبها وفهمِها، أمّا العاميّ فيكفيه التّقليد لعجزه، قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وهذا خلافا لظاهر ما ذهب إليه بعضُ الشرّاح، الّذين أطلقوا عدم جواز التّقليد، ومنهم من قيّد بما ذكرناه، منهم الشيخ مفتي البلاد النجدية في وقته عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله حيث قال:
" وفرضٌ على كلّ أحدٍ معرفة التّوحيد، وأركان الإسلام بالدّليل، ولا يجوز التّقليد في ذلك، لكن العامّي الّذي لا يعرف الأدلّة إذا كان يعتقد وحدانية الرّبّ، ورسالة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنّار، ويعتقد أنّ هذه الأمور الشّركية التي تُفعَل عند هذه المشاهد باطل وضلال؛ فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شكّ فيه فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدّليل؛ لأنّ عامّة المسلمين ولو لُقِّنوا الدّليل فإنّهم لا يفهمون المعنى غالباً "اهـ.
وإنّما قال بعدم صحّة إيمان المقلّد المعتزلة وجمهور الأشاعرة ! قال العدويّ رحمه الله في " حاشيته "(1/152):" والمقلّد يجب عليه اتّباع أهل العلم، غيرَ أنّه لا يجوز له التّقليد في العقائد "!.
وخالف في ذلك المحقّقون منهم، فقد نقل الحافظ رحمه الله في "الفتح" (13/354) عن صلاح الدّين العلائيّ أنّه قال:" وأمّا من غلا فقال: لا يكفي إيمان المقلّد، فلا يُلتفتُ إليه؛ لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين "اهـ.
ونقل النّوويّ رحمه الله (1/171) عن ابن الصلاح رحمه الله أنّه قال عن حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه:
" وفيه دلالة لصحّة ما ذهب إليه أئمّة العلماء من أنّ العوام المقلِّدين مؤمنون، وأنّه يُكتَفَى منهم بمجرّد اعتقاد الحقّ جزماً من غير شكّ وتزلزُلٍ، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة "اهـ.
ونقل ابن حزم رحمه الله في " الفصل " (4/35) الإجماع على صحّة إيمان المقلّد مع اليقين.
ومن عجيب ما نقله الحافظ رحمه الله عنهم في (13/350):" قول جماعة منهم: إنّ من لم يعرف اللهَ بالطّرق الّتي رتّبوها، والأبحاث الّتي حرّروها لم يصحّ ايمانه ! حتّى لقد أُورِد على بعضِهم أنّ هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك ! فقال: لا تشنِّعْ عليّ بكثرةِ أهل النّار !".
والصّواب: أنّ إيمان المقلّد العاجز عن النّظر في الأدلّة صحيح، بشرط أن يكون إيمانه يقينيّا، لا يعترِيه شكّ أو ريب. فليس الأمر مبنيّا على التّخمين، ومجرّد الظنّ، كما نُقِل عن أحدهم قوله:
قال الطّبيب والمنجـّم كـلاهمـا *** لا تبعث الأموات، قلت: إليكما
إن كان حقّا ما قلتما فلست بخاسر *** وإن كان كِذْبا فالخسار عليكما
- · قوله رحمه الله:" الثّانيةُ: العَمَلُ بِهِ ".
فالعمل هو ثمرة العلم، والعلم مقصودٌ لغيره، فهو بمنزلة الشّجرة والعمل بمنزلة الثّمرة، وقد قالوا: علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.
وإنّ الّذي يعلم ولا يعملُ شرّ من الجاهل، وفي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ [فذكر الشّهيد والمتصدّق بماله، ثمّ قال]: وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ )).
وروى الدّرامي أنّ عمرَ بنَ الخطّابِ رضي الله عنه قال لعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ رضي الله عنه: من أربابُ العلمِ ؟ قال: الّذينَ يعملونَ بما يعلمونَ. قال: فما يَنْفِى العلمَ منْ صدورِ الرّجالِ ؟ قال: الطّمعُ.
حسبي بعلمي إن نفع *** ما العيب إلاّ في الطّمع
ما طـار طير وارتفع *** إلاّ كما طـار وقـع
فإنّ تقوى الله عزّ وجلّ ما كانت في قليل إلاّ كثّرته، ولا في يسير إلاّ باركته، فهي وصيّة الله تعالى للأوّلين والآخرين، وموعظة الله لعباده أجمعين.
فالعلم الذي تُحصّله مع الأيّام، يجب أن يظهر على قلبك ولسانك وجوارحك، وما أقبح بالمسلم أن لا يحاسب نفسه فيما يتعلّمه: ما الّذي جناه واستثمره ؟ ما أقبح بمن يتعلّم أن تكون فيه خصلة من خصال الجاهليّة !
فيا طالب العلم، إنّك إن اتّقيت الله عزّ وجلّ قَبِل منك أعمالك، وهو القائل:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ}.
فإذا خرجت وأنت تحمل كتابا، ورمقتك الأنظار والأبصار، فاستشْعِر وأنت على ذلك الحال أنّك ذاهب إلى معرفة ما يقرّبك إلى الله، ويبعدك من الشّيطان .. تذهب إلى ما يخرجك من الظّلمات إلى النّور، فاحذر ألاّ تحاسب نفسك فيكون العلم عليك لا لك.
قال الإمام أبو بكر الآجرّي رحمه الله تعالى في " أخلاق العلماء " (ص 54) وهو يتكلّم عمّا يجب أن يهتمّ له المتعلّم:
" .. ولأن يتأدّب بالعلم .. إن ازداد علما خاف من ثبات الحجّة، فهو مشفق في علمه، كلّما ازداد علما ازداد إشفاقا، إن فاته سماع علم قد سمعه غيره فحزن على فوته لم يكن حزنه بغفلة حتّى يواقِفَ نفسه، ويحاسبها على الحزن، فيقول:
لم حزنتِ ؟ احذري يا نفس أن يكون الحزنُ عليك لا لك إذ سمعه غيرك فلم تسمعيه أنت !.. فكان أولى بك أن تحزني على علم قد قرع السّمع، وقد ثبتت عليك الحجّة، فلم تعملي به، فكان حزنك على ذلك أولى من حزنك على علم لم تسمعيه ولعلّك لو قدّر لك سماعه كانت الحجّة عليك أوكد .. فاستغفر الله من حزنه، وسأل مولاه الكريم أن ينفعه بما قد سمع " اهـ.
وكم يشكو الواحد منّا قلّة التّوفيق ؟
كم منّا من يشكو من الملل والكلل بمجرّد فتح كتاب !؟ .. كم منّا من يقول: أدرس وأحفظ، وأحفظ ثمّ أنسى ؟!
فليعلم أنّه لو نقّب عن خبايا نفسه، وإلى أمثلة من أعماله لوجد الدّاء هو إصراره على الغيبة .. إصراره على الكذب .. إصراره على أكل المال بالباطل .. إصراره على إضاعة الأوقات .. وقوعه في عصيان والديه، وغير ذلك ممّا يجده بين يديه.
وقد جاء الإمامُ الشّافعي رحمه الله يوما إلى الإمام مالك رحمه الله، وقرأ عليه " الموطّأ "، فأُعجب الإمام مالك بعلم الشّافعي، فقال له: "اعلم يا هذا أنّ الله قد ألقى في قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية ".
وقد قال أحدهم - وينسبونه إلى الشّافعيّ وهو ليس له -:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقـال لي بأنّ العـلم نـور *** ونور الله لا يهدى لعاصي
وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه:" لا يغرُرْكم من قرأ القرآن، ولكن انظُروا إلى مَن يعمل به ".
وقال مالك بن دينار رحمه الله:" تلقى الرّجلَ ما يلحن حرفاً، وعملُه لحنٌ كلّه !".
وقال ابن جماعة رحمه الله في هذا الشّأن:
" واعلم أنّ جميع ما ذُكر من فضيلة العلم والعلماء إنّما هو في حقّ العلماء العاملين الأبرار المتقين، الّذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزّلفى لديه في جنّات النّعيم، لا مَن طلبه لسوء نيّة، أو خُبث طويَّة، أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال، أو مكاثرة في الأتباع والطُلاّب " [" تذكرة السّامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلّم " (ص 9)].
قال ابن رجب رحمه الله في "فضل علم السّلف على الخلف " (ص 69) وهو يشرح حديث (( اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا )):
" كان الإمام أحمد رحمه الله يقول عن معروف:" معه أصل العلم: خشية الله "، فأصل العلم بالله [هو] الّذي يوجب خشيته، ومحبّته، والقرب منه، والأنس به، والشّوق إليه.
ثمّ يتلوه العلمُ بأحكام الله، وما يحبّه ويرضاه من العبد من قولٍ أو عملٍ أو حالٍ أو اعتقادٍ.
فمن تحقّق بهذين العلمين كان علمه نافعاً، وحصل له العلم النّافع، والقلب الخاشع، والنّفس القانعة، والدّعاء المسموع.
ومن فاته هذا العلم النّافع، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وصار علمه وبالاً وحجّة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنّه لم يخشع قلبه لربّه، ولم تشبع نفسه من الدّنيا، بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً ولم يُسمع دعاؤه؛ لعدم امتثاله لأوامر ربّه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه ...".
- · قوله رحمه الله: ( الثّالثةُ: الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ ).
فأشرف المنازل العلم، وزينته العمل، وزكاته الدّعوة إليه، وهو منهج الأنبياء والمرسلين، يقول الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}.
- · قوله رحمه الله: ( الرّابعةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ ):
لأنّ من دعا النّاس إلى الهدى، وحذّرهم من مزلاّت الرّدى، يحولُ بين النّاس وشهواتهم، ويعيقُهم عن نشر فسادهم، فهو بذلك قد خلف الرّسل في مهمّتهم،{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصّلت من: 43]، فلا بدّ أن يُصادف المشاقّ، وتعترض طريقَه الأشواك، حتّى يتلطّخ جسده بدماء النّصب والتّعب، فيكونَ ذلك دليلا على صدقه.
وإذا صدق العبدُ ربّه صدقه بالنّصر العزيز والفتح المبين، قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
وقد سُئل الشّافعيّ رحمه الله: يا أبا عبد الله، أيّما أفضل للرّجل: أن يُمكّن أو يُبتلَى ؟ فقال الشّافعيّ رحمه الله: لا يُمَكَّنُ حتّى يُبتلَى، فإنّ الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّداً صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين فلمّا صبروا مكّنهم.
قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السّجدة: 24]، فبالصّبر واليقين تُنال الإمامة في الدّين.
قال ابن القيّم رحمه الله في " الفوائد ":" وهذا أصلٌ عظيمٌ، فينبغي للعاقل أن يعرِفه، وهذا يحصل لكلّ أحدٍ؛ فإنّ الإنسان مدنيّ بالطّبع، لا بدّ له من أن يعيش مع النّاس، والنّاس لهم إراداتٌ وتصوّراتٌ يطلبون منه أن يوافقَهم عليها؟، وإن لم يوافقهم آذوه وعذّبوه ...".
وقال في موضعٍ آخر من " الفوائد ":
" يا مخنّث العزم، أين أنت والطّريق طريقٌ تعِب فيه آدمُ، وناح لأجله نوحٌ، ورُمِي في النّار الخليل، وأُضجِع للذّبح إسماعيل، وبِيعَ يوسفُ بثمنٍ بخسٍ، ولبِث في السّجن بضعَ سنين، ونُشِر بالمنشار زكريّا، وذُبِح السيّد الحصورُ يحيى، وقاسى الضرَّ أيّوب، وزاد على المقدار بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمّد، تزها أنت باللّهو واللّعب ؟!
فيا دارها بالحزن إنّ مزارها *** قريب، ولكنْ دون ذلك أهوال "اهـ.
ونُكمل إن شاء الله ما جاء في تفسير سورة العصر لاحقا إن شاء الله.
:
|