{إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَـاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَـابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَـاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَـاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـاطِلاً سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190،191].
روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبَاسٍ رضي الله عنه قال:
" بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ رضي الله عنها فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، قَعَدَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ، وَاسْتَنَّ، فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ ".
زاد ابن حبّان رحمه الله قال:" فلم يزل يبكي حتّى بلّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلمّا رآه يبكي، قال: يا رسول الله ! لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم وما تأخّر ؟! قال: (( أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً ؟! لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...} الآيةَ كلها".
فما هذه الوقفات إلاّ تدبّر لجزء من خلق السّماوات، نسأل الله تعالى بها العفوَ عن الزلاّت.
الوقفة الأولى: حديث النّاس عن الحرّ.
حديث النّاس عن الحرّ قد ملأ جلّ الأوقات، وكيفيّة التخلّص منه صار من أعظم الانشغالات؛ فكلّ النّاس يشكو قساوة الحرّ، وكلٌّ يتّخذ التّدابير من وسائل وغيرها، لئلاّ يعاني من ألمه، ويسلم من سقمه ..
فمن أين هذا الحرّ ؟
كثير من المسلمين يجهلون ذلك، وخاصّة مع الحملة العلمانيّة الشّديدة الّتي تقام على النّظرة الشّرعيّة للظّواهر الطّبيعيّة !
فتستمع إلى أغلب وسائل الإعلام، وهي تقول: إنّه منخفض جوّي من بلد فلانيّ !
وتستمع إلى آخرين فيقولون: ثُقب في طبقة الأزون سبّب مثل هذا الحرّ !
وصار أوّل ما يدور في ذهن العوامّ أنّه: احتراق غابة من الغابات !
ولكنّني أدعوك إلى أن تستمع إلى الأخبار الصّحيحة، ممّن لم يعتمد على الأحوال الجوّية .. ولكنّه اعتمد على وحي ربّ البريّة .. خبرٌ موقّعٌ عليه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}..
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ! فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ )).
ورويا أيضا عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه عنْ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ )).
عباد الله ! تلكم الحرارة التي لا يمكن أن تتصوّرها في هذه الدّنيا، ذلكم الحرّ الذي ما زال يفتك بالآلاف في أقصى شرق العالم، إنّما هو من نفس جهنّم - أعاذني الله وإيّاكم من عذاب جهنّم - فما هو حرّها إذن ؟!
أوصافها في القرآن والسنّة تُغنِي عن كلّ الأوصاف .. قال تعالى:{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] ، وقال جلّ ذكره: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8].
وفي الصّحيحين عن النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يقولُ: (( إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ، يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ )) !
لذلك كان الصّالحون إذا شعروا بشدّة الحرّ قالوا: اللهمّ إنّي أعوذ بك من حرّ جهنّم.
ورأى عمرُ بنُ عبد العزيز قوماً في جنازة قد هربوا من الشّمس إلى الظلّ، وتوقّوا الغبار، فبكى وأنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار يخاف الشيـن والشّعـثا
ويألف الظــل كي يبقي بشاشته *** فسوف يسكن يومـا راغما جدثا
في ظــــل مقفرة غبراء مظلمة *** يطيل تحت الثرى في غمّـها اللّبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به، يا نفــس *** قبــل الــرّدى لم تخلقي عبثا
الوقفة الثّانية: الشّمس بين مشهدي العظمة والانكسار.
هذه الشّمس التي حيّرت العلماء، وأعجزت الحكماء، وتعجّبوا من سعتها، وشديد عظمتها، حتّى أعلنوها بالرّغم منهم أنّها أكبر من الأرض بمليون وثلاثة مئة ألف مرّة !
لشدّة حرّها منع الله تعالى الحياة على كواكبَ أعظمَ بكثير من هذه الأرض لقربها منها .. وما يصلنا من أشعّتها إنّما هو أدناها !
يُخبرنا الله تعالى عنها في القرآن الكريم قائلا:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحجّ:18].
روى البخاريّ عنْ أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ:
(( أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ )) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ:
(( فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
ها هي الشّمس على عظمتها، وسعتها، تراها تذلّ للواحد الأحد، فـ:{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ}.
الوقفة الثالثة: الشّمس من جنود الله يوم القيامة.
كما جعل الله هذه الشّمسَ من أعظم آياته على قدرته، فسيجعلها من جنوده يوم القيامة:
فقد روى مسلم عن المِقْدَادِ بنِ الأسودِ قال: سمعت رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ! فَيَكُونَ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا ))، قال: وأشار رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بيده إلى فِيهِ.
عندئذ يشتدّ بالنّاس الكرب، ويعظُمُ بهم الخطب، فيأتون الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربّهم تعالى، ليأتي لفصل القضاء بعد طول انتظار.
الوقفة الرّابعة: الشّمس تدلّ على سعة جهنّم.
اعلم - أخي الكريم - أنّ هذه الشّمس كما تدلّ على شدّة حرّ جهنّم، فهي تدلّ أيضا على سعتها.
فقد روى البخاريّ عن أبِي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ ))، تفسيرا لقوله عزّ وجلّ:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}.
وفي معجم الطّبراني عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الشَّمْسُ وَالقَمَرُ يُكَوَّرَانِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ )). [انظر " السّلسلة الصّحيحة "(124)].
وليس ذلك لتعذيبهما، ولكن تبكيتاً لعُبَّادهما .. فالله هو القائل:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
فإذا كانت الشّمس أكبر من الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرّة، ثمّ تُلْقَى وتُكوّر في النّار، فكيف هي سعة جهنّم ..!
الوقفة الخامسة: الحرّ غنيمة أو هزيمة.
فهذا الحرّ الشّديد، إنّما هو ابتلاء يميّز الله به الصّالحين، وعقوبة وعذاب للمنافقين.
فليس الحرُّ عائقا عن طاعة الله، ومن عاقه الحرّ عن الطّاعة ففيه شبه بالمنافقين، كما حدث في غزوة تبوك {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
وابن آدم ملول، لا يستقيم على طريقة:
يتمنّى المرء في الصّيف الشّتاء *** فإذا جاء الشتاء أنكــره
فهو لا يرضى بحال واحــد *** قتل الإنسان ما أكفــره
أمّا الصّفوة من عباد الله، فإنّهم يرون أنّ في الحرّ غنيمةً لا تفوت ؟
- هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، حين حضرته الوفاة، لم يتأسّف على مال ولا ولد، ولم يبك على فراق نعيم الدّنيا، ولكنّه حزن على مفارقة قيام اللّيل، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب، وعلى ظمأ الهواجر بالصّيام في أيّام الحرّ الشّديد.
- وخرج ابن عمر رضي الله عنه في سفر معه أصحابه، فوضعوا سُفرةً لهم، فمرّ بهم راعٍ، فدعَوْه إلى أن يأكل معهم، فقال: إنّي صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشّديد حرّه، وأنت بين هذه الشّعاب، في آثار هذه الغنم، وأنت صائم ؟! فقال: أُبَادِر أيّامي هذه الخالية.
- ويقول أبو الدرداء موصياً أحبابه: صوموا يوماً شديداً حرّه لحرّ يوم النّشور، وصلّوا ركعتين في ظلمة اللّيل لظلمة القبور.
- وقد روى البزّار بإسناد حسن - كما في "صحيح التّرغيب والتّرهيب"- عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:
(( أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ أَبَا مُوسَى رضي الله عنه عَلَى سَرِيَّةٍ فِي البَحْرِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، قَدْ رَفَعُوا الشِّرَاعَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، إِذَا هَاتِفٌ فَوْقَهُمْ يَهْتِفُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ ! قِفُوا أُخْبِرْكُمْ بِقَضَاءٍ قَضَاهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ.
فَقَالَ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه: أَخْبِرْنَا إِنْ كُنْتَ مُخْبِراً. قَالَ: إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ أَعْطَشَ نَفْسَهُ لَهُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ سَقَاهُ اللهُ يَوْمَ العَطَشِ ))..
كذلك حين يخرج المصلّي إلى صلاة الظّهر أو العصر، فيرى الشّمس اللاّهبة، ويحسّ بالحر اللاّفح، لكنّه يطمع في رحمة ربّ العالمين، ويدّخر هذا المخرج عند الله يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
والله تعالى الموفّق، لا ربّ سواه.