وقال التفتازاني رحمه الله في " التّلويح ":" سُمّيت بذلك لأنّها أسماء لحروف يجب أن يقطع في التكلّم كلّ منها عن الآخر على هيئته ".
وقبل معرفة الغرض من ذكر هذه الحروف في أوّل بعض السّور، فإنّه لا بدّ من تنبيهين:
- التّنبيه الأوّل: لقد جرى كثير من المفسّرين على اعتبار هذه الأحرف من أسرار القرآن الّتي لا يمكن أحدا الاطّلاع عليها، حتّى إنّهم ليُمثّلون بها للقرآن المتشابه الّذي استأثر الله بعلمه.
وقد أيّدوا قولهم هذا بآثار عن بعض الصّحابة كأبي بكر الصدّيق، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأقوال بعض التّابعين، منها ما نُقِل عن عامر الشّعبي وسفيان الثّوري وجماعة من المحدّثين أنّهم قالوا: هي سرّ الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر.
والّذي يمعن النّظر في هذه الآثار والأخبار يجدها: إمّا لا سند له، أو ممّا سندُه بيّن الضّعف.
وهذا القول رفضه وردّه كثير من العلماء المحقّقين؛ ذلك لأنّ الله تعالى دعانا في كتابه في أكثر من موضع إلى تدبّر آياته وفهم مدلولاته، فقال:
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء:82]، وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد:24]، وقال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } [ص:29]، وقال: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر:17].
فكيف يأمرنا الله تعالى بفهم وتدبّر ما استأثر هو سبحانه بعلمه ؟
إنّما استأثر الله بعلم حقائق الأشياء المتعلّقة بأمور الغيب ونحو ذلك.
- التّنبيه الثّاني: إذا علمنا أنّها ليست من المتشابه، وأنّ لها غرضا يدركه العرب، علمنا أيضا أنّها لم تُذكر عبثا، وأنّها ليست مخلّة بفصاحة الكلام.
إذ لو كان الأمر كذلك لسارع المكذّبون من العرب - وهم أحرص النّاس يومئذ - إلى تسفيه النبيّ صلى الله عليه وسلّم والطّعن في كلام الله تعالى على أنّه يأتي بحروف لا معنى لها.
أمّا وأنّهم قد خرِست ألسنتهم وحارت أفئدتهم في كلام الله، واعترفوا بأنّه بلغ ناعوس البحر، وأنّه لا يستطيع أن يأتي بمثله بشر، دلّ كلّ ذلك على أنّ لها مدلولا، وأنّ لها غرضا [ أفاده ابن العربي المالكيّ رحمه الله ].
فما غرض هذه الأحرف ؟
بلغت أقوال العلماء في بيان معنى الحروف المقطّعة الّتي افتُتِحت بها بعض السّور واحدا وعشرين قولا، أكثرها قائم على آثار واهية وموضوعة، وبعضها قائم على محض الرّأي.
وأولى هذه الأقوال بالصّواب إن شاء الله هو ما ذهب إليه المبرّد وقطرب والفرّاء - وهؤلاء من أساطين اللّغة -، ونصره الزّمخشريّ وابن تيمية وابن القيّم والمزّي وابن كثير وغيرهم رحمهم الله جميعا، أنّها:
" إشارة إلى حروف الهجاء، أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنّه مؤلّف من حروف هي الّتي منها بناء كلامهم، ليكون عجزُهُم عنه أبلغ في الحجّة عليهم، إذ لم يخرج عن كلامهم ".
ويؤيّد مذهبهم هذا نظرة خاطفة على أكثر السّور المبدوءة بهذه الأحرف، تراها قد ذُكر القرآن بعدها إعلاما للعرب بأنّ هذا القرآن الّذي عزمتم على تكذيبه إنّما هو من هذه الأحرف الّتي بها تنطقون، ولغتكم الّتي بها تلهجون، فقال تعالى:
- { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) } [البقرة].
- { الم (1) ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ (3) } [آل عمران].
- { المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) } [الأعراف].
- { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) } [يونس].
- { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود].
- { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)} [يوسف].
- { المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)} [الرعد].
- { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} [إبراهيم:].
- { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)} [الحجر:.
- { طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) } [طه].
- { طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) } [الشعراء].
- { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)} [النمل].
- { طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) } [القصص].
- { الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) } [لقمان].
- { الم (1) ) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } [السّجدة].
- { يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) } [يـس].
- { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ص:1].
- { حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) } [غافر].
- { حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) } [فصّلت].
- { حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) } [الشّورى].
- { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) } [الزّخرف].
- { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) } [الدّخان].
- { حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) } [الجاثـية].
- { حم (1)تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) } [الأحقاف].
- { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} [ق].
- { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم]. ذلك لأنّ المراد بالنّعمة هنال القرآن والرّسالة، وذلك حين قال المشركون: { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } [القلم:51]، فردّ الله عليهم مقسما: { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }.
قال الزّمخشريّ رحمه الله: " ولهذا كلّ سورة افتُتِحت بالحروف فلا بدّ أن يُذكر فيها الانتصار للقرآن وبيانُ إعجازه وعظمته ".
فحيثما رأينا هذه الأحرف ذُكر الكتاب والقرآن بعدها، إلاّ في ثلاث سورٍ: مريم والعنكبوت والرّوم، لذلك قلنا إنّ الكتاب ذكر بعدها في أغلب السّور المفتتحة بها.[1]
إذن فالله تعالى يفتتح هذه السّور بهذه الأحرف لينبّههم على أنّه ما ألِّف هذا القرآن إلاّ من لغتهم، وتمّ التحدّي ولم يجد القرآن منهم المتصدّي ..
المبحث الثّاني: أسرار تتعلّق بهذه الحروف.
ذكرت هذه الحروف في تسع وعشرين سورة، وهي أربعة عشر حرفا مجموعة في قولهم: ( نصّ حكيم قاطع له سرّ ).
فذكر الزّمخشريّ، والنّسفي، والسّيوطي، وابن القيّم رحمهم الله جميعا هذه النّكت واللّطائف الّتي تدلّ على حكمة الله البالغة من جهة، وعلى رسوخ قدم هؤلاء الأعلام من جهة أخرى:
1- ذكر الله أربعة عشر حرفا، وهي نصف حروف اللّغة العربيّة.
2- قال ابن كثير رحمه الله:" ذكر أشرف الحروف وهي نصف الحروف عددا، والمذكور منها: أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف ".
3- وذكر من كلّ جنس نصفه:
فمن حروف الحلق:( الحاء والعين والهاء ).
ومن أقصى اللّسان: ( القاف والكاف ).
ومن حروف الشّفة: ( الميم ).
ومن الحروف المهموسة: ( السّين والحاء والكاف والصّاد والهاء ).
ومن حروف الشدّة ( الهمزة والطّاء والقاف والكاف ).
ومن المطبقة ( الطّاء والصّاد ).
ومن حروف الجهر ( الهمزة والميم واللاّم والعين والطّاء والقاف والياء والنّون ).
ومن حروف الاستعلاء ( القاف والصّاد والطّاء ).
ومن المنخفضة - أي: حروف الاستفال - نصفها ( الهمزة واللاّم والميم والرّاء والكاف والهاء والياء والعين والسّين والحاء، والنّون ).
ومن حروف القلقلة ( الطّاء والقاف ).
4- ذكر حروفا مفردة، وما تكوّن من حرفين، وما تكوّن من ثلاثة، وما تكوّن من أربع، وما تكوّن من خمس، لأنّ تراكيب الكلام على هذا النّمط ولا يزاد على خمسة أحرف أبدا.
5- كلّ سورة بُدِئت بهذه الأحرف، ترى أكثر كلماتها وحروفها مماثل لها:
- فسورة ( ق ) بدئت بهذا الحرف لما تكرّر فيها من الكلمات بلفظ ( القاف ): من ذكر القرآن، والخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارًا، والقرب من ابن آدم، وتلقّي الملكين، وذكر الرّقيب، والقرين، والسّائق، والإلقاء في جهنّم، وإلقاء الرواسي، وبُسُوق النّخل، والرّزق، وذكر القوم، والتقدّم بالوعيد، وذكر المتّقين، والقلب، والقرون، والتّنقيب في البلاد، وتشقّق الأرض، وإحقاق الوعيد، وغير ذلك.
- واشتملت سورة ( ص ) على خصومات متعدّدة، فأوّلها خصومة النبيّ صلى الله عليه وسلّم مع الكفّار، وقولهم: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }، ثمّ اختصام الخصمين عند داود عليه السّلام، ثمّ تخاصم أهل النّار، ثمّ اختصام الملأ الأعلى، ثمّ تخاصم إبليس في شأن آدم، ثمّ في شأن بنيه وإغوائهم.
- و( الم ) جمعت المخارج الثّلاثة: الحلق واللّسان والشّفتين على ترتيبها، وذلك إشارة إلى البداية الّتي هي بدء الخلق والنّهاية التي هي بدء الميعاد والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنّواهي.
وكلّ سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة.
قال ابن القيّم رحمه الله:" فتأمّل ذلك في البقرة، وآل عمران، وتنـزيل السّجدة، وسورة الرّوم ".
- وسورة الأعراف زيد فيها الصّاد على ( الم ) لما فيها من زيادة شرح القصص كقصّة آدم فمن بعده من الأنبياء، ولما فيها من ذكر { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ }.
وزيد في ( الرّعد ) راء، لأجل قوله:{ رَفَعَ السَّمَوَاتِ } ولأجل ذكر الرّعد والبرق وغيرهما.
قال ابن القيّم: " فليتأمّل اللّبيب الفطن .. وهذه قطرة من بحرٍ من بعض أسرار هذه الحروف ". [انظر " بدائع الفوائد " (3/692، 693)].
( تنبيه )
ممّا سبق يتبيّن أنّ ( طه ) و( يس ) من الحروف المقطّعة أيضا، وأنّ من الأخطاء الشّائعة اعتبارَ النّاس ذلك من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلّم؛ لأنه لم يرد لا في كتاب الله ولا في سنّة صحيحة أنّ ( طه ) اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلّم.
وربّما ظنّوا كلاّ من قوله تعالى: { طه } و{ يس } هنا منادى ! وهذا بعيد جدّا، من وجوه:
1- أنّها من الحروف المقطّعة كما بيّنّاه.
2- أنّ من المقرّر أنّ أسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلّم مطابقة للمسمى في المعنى.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا شأن أسماء الرب تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيه، هي أعلام دالّة على معان هي بها أوصاف، فلا تُضَادُّ فيها العلميةُ الوصفَ، بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين.." [جلاء الأفهام (1/171)].
فمن أسماءه تعالى "الرحمان"، و"العزيز"، و"القهار"، وكلّها ذات معنى هو صفة له تعالى.
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلّم "نبيّ الرحمة"، و"نبيّ الملحمة"، و"الحاشر"، و"القاسم"، وكلّها ذات معنى هو صفة له صلى الله عليه وسلّم.
فإذا تقرر هذا، فما معنى" طه" و" يس " ؟
3- أنّنا لم نسمع عن أحد من الصّحابة ولا من التّابعين أنّه سمّي بـ:طه أو يس، ممّا يدلّ على أنّ السّلف ما اعتبروا هذين من الأسماء.
أمّا ( يس )، الّذي صار علما على كثير من النّاس، فنراهم ربّما تعلّقوا بقوله تعالى: { سَلاَمٌ عَلىَ إلْ ياَسِينْ }.
فاعلم أنّه " إلياس" عليه السّلام، زيدت عليه النّون لأنّه أعجميّ، وهذا ما تفعله العرب، كما قيل في "طور سيناء": طور سينين، وقالوا عن إدريس ( إدريسين )، بل يتوسّعون في أكثر من ذلك فيزيدون في نحو: ميكال فيقولون ( ميكائيل )، وغير ذلك.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.