لا تنسَ - أيّها المسلم - ما جرى يومَ حادثة أسرَى بدرٍ .. فقد روى التّرمذي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ جِبْرَائِيلَ هَبَطَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: خَيِّرْهُمْ - يَعْنِي أَصْحَابَكَ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ: الْقَتْلَ، أَوْ الْفِدَاءَ، عَلَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ قَابِلًا مِثْلُهُمْ )). قَالُوا: الْفِدَاءَ وَيُقْتَلُ مِنَّا !
وفي رواية قالوا: بلْ نُفَادِيهِمْ فَنَتَقَوَّى بِهِ عَلَيْهِمْ، ويَدْخُلُ مِنَّا الْجَنَّةَ سَبْعُونَ. ففادوهم.
إذن، فما كان من الله إلاّ أن أجابهم إلى مطلوبِهم .. وعلى هذا فسّر بعض السّلف قولَه تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
• الثّاني: أنّ ما فعله الرّماة كان استجابةً لواقعٍ أمامَ أعينهم، فقد شاهدوا ما حصل للمشركين، وهم يداسون بأقدام المؤمنين، بل شاهدوا دليلا قاطعاً على أنّ المعركة قد انتهت لصالحهم وهو: جمع الغنائم.
فالحقُّ يقال، أنّه ما من إنسان يُؤمَن عليه بعد هؤلاء الأطهار .. فأيّ خطأ يقع منهم فنجزم أنّ غيرهم يقع فيه من باب أولى.
لكنّ الفرق بينهم وبين غيرهم أنّ الله قال فيهم:{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: من الآية152].
• الثّالث: أنّ هذه الغزوة في الميزان العسكريّ لا تُعَدُّ هزيمة بالمعنى الشّامل للكلمة، وإنّما تعتبر نصرا من نواحٍ عدّة:
فالقتلى متساوون في صفّي المسلمين والمشركين، وامتاز عنهم المسلمون أنّ لديهم أسرى، ولم يؤسر أحد من المسلمين.
ولو كان المشركون أحرزوا النّصر بحقّ لظلّوا يحاصروت المسلمين في الجبل، أو انطلقوا إلى المدينة، ولكنّهم اكتفوا بصراخ وضجيج يُعلون فيه هبلَ، وينادون: "يومٌ بيومٍ"، "الحربُ سِجال"، " الأيّام دُوَل " !
• الرّابع: تأمّل قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} فهو أمر قد أراده الله فقضاه لجكمٍ بليغة، وأمور عظيمة.
فلا شكّ أنّ من وراء ذلك أمورا يريد الله إظهارها، فما هي ؟.. سألنا ابن القيّم رحمه الله، فقال في "زاد المعاد":
" ( فصل ) في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة الّتي كانت في وقعة أحد:
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أمّهاتها وأصولها في سورة آل عمران، حيث افتتح القصّة بقوله:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إلى تمام ستّين آية:
1- (فمنها) تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأنّ الّذي أصابهم إنّما هو بشؤم ذلك:
كما قال تعالى:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}. فلمّا ذاقوا عاقبة معصيتهم للرّسول، وتنازعهم وفشلهم، كانوا بعد ذلك أشدّ حذرا ويقظة وتحرّزا من أسباب الخذلان.
2- (ومنها) أنّ حكمة الله وسنّته في رسله وأتباعهم جرت بأن يُدَالوا مرّة، ويدالَ عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنّهم:
لو انتصروا دائما، دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميّز الصّادق من غيره.
ولو انتُصِر عليهم دائما، لم يحصل المقصود من البِعثة والرّسالة.
فاقضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين، ليتميّز من يتّبعهم ويطيعهم للحقّ وما جاؤوا به، ممّن يتّبعهم على الظّهور والغلبة خاصّة.
3- (ومنها) أنّ هذا من أعلام الرّسل.
كما قال هرقل لأبي سفيان: " هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ " قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: " كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ؟" قَالَ: " سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْنَا المَرَّةَ، وَنُدَالُ عَلَيْهِ الأُخْرَى ". قَالَ: " كَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةٌ "..
4- (ومنها) أن يتميّز المؤمن الصّادق، من المنافق الكاذب.
فإنّ المسلمين لمّا أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصِّيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمه الله عزّ وجل أن سبّب لعباده محنةً ميّزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلّموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخباتهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم النّاس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أنّ لهم عدوّا في نفس دُورِهِم وهم معهم، لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحرّزوا منهم، قال الله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179]. أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتّى يميّز أهل الإيمان من أهل النّفاق، كما ميّزهم بالمحنة يوم أحد، وما كان الله ليُطلعكم على الغيب الّذي يميَّز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنّهم متميّزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميّزهم تمييزا مشهودا، فيقع معلومه الّذي هو غيب شهادة، وقوله:{وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} استدراك لما نفاه من إطلاع خلقه على الغيب سوى الرّسل، فإنّه يُطلِعهم على ما يشاء من غيبه، كما قال:{عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجنّ:26-27]، فحظّكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الّذي يُطلِع عليه رسلَه، فإن آمنتم به، وأيقنتم، فلكم أعظم الأجر والكرامة.
5- (ومنها) استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السرّاء والضرّاء، وفيما يحبّون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم.
فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون، فهم عبيده حقّا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السرّاء والنّعمة والعافية.
6- (ومنها) أنّه سبحانه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوّهم في كلّ موطن، وجعل لهم التّمكين والقهر لأعدائهم أبدا، لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النّصر والظّفر لكانوا في الحال الّتي يكونون فيها لو بسط لهم الرّزق، فلا يصلح عباده إلا السرّاء والضرّاء، والشدّة والرّخاء، والقبض والبسط، فهو المدبّر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنّه بهم خبير بصير.
7- (ومنها) أنّه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة، ذلّوا وانكسروا وخضعوا، فاستوجبوا منه العزّ والنّصر، فإنّ خلعة النّصر إنّما تكون مع ولاية الذلّ والا نكسار، قال تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهَ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران 123]، وقال:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التّوبة 25]، فهو سبحانه إذا أراد أن يُعزّ عبده ويَجْبُرَه، وينصره، كسره أوّلاً، ويكون جَبْرُه له ونصرُه على مقدار ذلّه وانكساره.
8- (ومنها) أنّه سبحانه هيّأ لعباده المؤمنين منازلَ في دار كرامته، لم تبلُغْها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلاّ بالبلاء والمحنة.
فقيّض لهم الأسباب الّتي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، كما وفّقهم للأعمال الصّالحة الّتي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
9- (ومنها) أنّ النّفوس تكتسب من العافية الدّائمة، والنّصر، والغِنى، طغيانا وركونا إلى العاجلة.
وذلك مرضٌ يعوقُها عن جدّها في سيرها إلى الله والدّار الآخرة، فإذا أراد بها ربُّها ومالكُها وراحمُها كرامتَه، قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السّير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطّبيب، يسقي العليل الدّواء الكريه، ويقطع منه العروق المؤلمة، لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتّى يكون فيها هلاكه.
10- (ومنها) أنّ الشّهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشّهداء هم خواصّه والمقرّبون من عباده، وليس بعد درجة الصدّيقيّة إلاّ الشّهادة، وهو سبحانه يحبّ أن يتّخذ من عباده شهداء، تراق دماؤهم في محبّته ومرضاته ويؤثرون رضاه ومحابَّه على نفوسهم، ولا سبيل إلى نيل هذه الدّرجة، إلاّ بتقدير الأسباب المُفضِية إليها، من تسليط العدوّ.
11- (ومنها) أنّ الله سبحانه إذا أراد أن يُهلك أعداءه، ويمحقهم قيّض لهم الأسباب الّتي يستوجبون بها هلاكَهم ومحقَهم.
ومِن أعظمها بعد كفرهم بغيُهم، وطغيانُهم ،ومبالغتُهم في أذى أوليائه، ومحاربتِهم، وقتالِهم، والتسلّط عليهم، فيتمحّص بذلك أولياؤُه من ذنوبهم، وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقِهم وهلاكِهم، وقد ذكر سبحانه ذلك في قوله:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}.
فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم، وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهممهم، وبين حسن التّسلية، وذكر الحِكم الباهرة الّتي اقتضت إدالةَ الكفّار عليهم، فقال:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}، فقد استويتم في القرح والألم، وتباينتم في الرّجاء والثّواب، كما قال:{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النّساء:104].
فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ؟ فقد أصابهم ذلك في سبيل الشّيطان، وأنتم أُصِبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي ؟ ثمّ أخبر أنّه يداول أيّام هذه الحياة الدّنيا بين النّاس، وأنّها عرض حاضر يقسمها دوَلاً بين أوليائه وأعدائه، بخلاف الآخرة فإنّ عزّها ونصرَها ورجاءَها خالصٌ للّذين آمنوا.
12- (ومنها) أنّ وقعة أحد كانت مقدّمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فثبّتهم، ووبّخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبُتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه، أو يقتلوا، فإنّهم إنّما يعبدون ربّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهو حيّ لا يموت، فلو مات محمّد صلّى الله عليه وسلّم أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكلّ نفس ذائقة الموت، وما بعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم ليخلد، لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإنّ الموت لا بدّ منه، سواء مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو بقي، ولهذا وبّخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لمّا صرخ الشّيطان: " إنّ محمّدا قد قتل !" فقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَئِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران 144].
والشّاكرون: هم الّذين عرفوا قدر النّعمة، فثبتوا عليها، حتّى ماتوا أو قتلوا، فظهر أثر هذا العتاب وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وارتدّ من ارتدّ على عقبيه، وثبت الشّاكرون على دينهم، فنصرهم الله وأعزّهم، وظفرهم بأعدائهم، وجعل العاقبة لهم ...
ثمّ أخبر سبحانه أنّ جماعة كثيرة من أنبيائه قتلوا وقتل معهم أتباعٌ لهم كثيرون، فما وهن من بقيَ منهم لِمَا أصابهم في سبيله، وما ضعُفوا عند القتل، وما استكانوا، بل تلقّوا الشّهادة بالقوّة والعزيمة والإقدام، فلم يستشهدوا مدبرين مستكينين أذلّة، بل استشهدوا أعزّة كراما مقبلين غير مدبرين.
ثمّ أخبر سبحانه عمّا اسنتصرت به الأنبياء وأممهم على قومهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم وسؤالهم ربَّهم أن يثبّت أقدامهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، فقال:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147].
لمّا علم القوم أنّ العدوّ إنّما يُدال عليهم بذنوبهم، وأنّ الشّيطان إنّما يستزلّهم ويهزمهم بها، وأنّها نوعان: تقصير في حقّ، أو تجاوز لحدّ، وأنّ النّصرة منوطة بالطّاعة، قالوا:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}.
ثمّ علموا أنّ ربّهم تبارك وتعالى إن لم يثبّت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا هم على تثبيت أقدام أنفسهم ونصرها على أعدائهم، فسألوه ما يعلمون أنّه بيده دونهم، وأنّه إن لم يثبّت أقدامهم وينصرهم لم يثبتوا، ولم ينتصروا، فوفَّوْا المقامّين حقَّهما مقام التّوحيد والالتجاء إليه سبحانه، ومقام إزالة المانع من النّصرة وهو الذّنوب والإسراف ...".
وختم كلامه رحمه الله تعالى بـ:
" ( تنبيه لطيف الموقع جدّا ).
على كراهته وبغضه للمنافقين، الّذين انخذلوا عن نبيّه يومَ أحدٍ، فلم يشهدوه، ولم يتّخذ منهم شهداءَ، لأنّه لم يُجِبهم، فأركسَهم وردَّهم ليحرمهم ما خصّ به المؤمنين في ذلك اليوم، وما أعطاه من استشهد منهم، فثبّط هؤلاء الظّالمين عن الأسباب الّتي وفِّق لها أولياؤه وحزبه.
فحصل لهم-أي للمؤمنين- تمحيصان:
تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممّن كان يظهر أنّه منهم وهو عدوّهم ".اهـ.
كان نزول هذه الآيات برادا وسلاما على قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه .. فما كان منه صلّى الله عليه وسلّم إلاّ أن رفع يديه للدّعاء كما بدأ أمره بالدّعاء.
روى البخاري في "الأدب المفرد" من حديث رفاعة بن رافع الزُّرقي قال:
" لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، انْكَفَأَ المُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( اسْتَوُوا وَأثْبُتُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي ))
فَاسْتَوَوْا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم:
(( اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك النَّعِيمَ المُقِيمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَمِنْ شَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ كَفَرَةَ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَهَ الحَقِّ ))..
هدأت الأنفس مع هذا النّداء .. واطمأنّت النّفوس مع هذا الدّعاء ..
فما أحلى ذكرَ ودعاءَ الله تعالى، فله الأمر من قبل ومن بعد، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه.