الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله أمّا بعد:
فإنّ المولى تبارك وتعالى قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران من الآية 110]، وإنّ من المنكر الفظيع، والفعل الشّنيع الذي يجب على كلّ منّا التّنبيه عليه، ولفت الأنظار إليه، للحذر من الوقوع فيه، هو بعض البدع والمخالفات التي تنتشر في شهر رمضان، شهر عبادة الرّحمن على وِفق سنّة العدنان صلّى الله عليه وسلّم.
ومن هذه البدع بدعة الإفطار بعد غروب الشّمس لا معه ! ويلحق بها بدعة الإمساك قبل الفجر !
ولمّا كان التطرّف لا يؤدّي إلاّ إلى مثله فقد قام من يُضادّ أولئك، فتراه ربّما أفطر قبل الوقت !
فرسالة إلى هؤلاء وهؤلاء ..
رسالة إلى الّذين يؤخّرون الإفطار بزمن.
لقد شاع عند كثير من النّاس - أفرادا وهيئات حكوميّة - أنّه لا بُدّ من تأخير الإفطار إلى ما بعد الغروب بزمن ! وطفا على المجتمع المسلم ما يسمّونه " الإمساك " قبل الأذان بعشر دقائق أو رُبع ساعة على الأقلّ ! لماذا ؟
قالوا: احتياطا لهذه لعبادة العظيمة !
فاعلم أنّ الاحتياط في الدّين مطلوب، ولكنّه إذا صادم وخالف نصّا من النصوص الشّرعيّة فإنّه حينئذ يكون من التنطّع الذي نهانا الله عنه، وقد روى مسلم عن عبدِ اللهِ بنِ مسْعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ .. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ .. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ..)) أي: المتكلّفون المتشدّدون.
وحال هؤلاء كحال من قيل له: إنّ هلال عيد الفطر قد ظهر، فأبى إلاّ أن يكمل ثلاثين يوما احتياطا لصومه .. فهل يقبل ذلك منه ؟!
فجواب كلّ عاقل حكيم، يبتغي الصّراط المستقيم أنّه عمل باطل؛ لأنّ هذا الاحتياط مصادم للنّص، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ))..
وكذلك الشّأن في وقت الإفطار والإمساك، قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: من الآية187] أي: إلى غروب الشّمس.
فالذي يؤخّر الإفطار إلى ما بعد الغروب بزمن ! أو يمسك قبل الفجر ! أتراه أشدّ احتياطا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟
ثمّ لا بدّ أن نعلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أخبر بأنّ أمّته ستُصاب بهذه النّكبة في سنّته، لذلك أمرنا بتعجيل الإفطار وتأخير السّحور، وجعل ذلك من علامات بقاء الخير في هذه الأمّة.
فقد روى البخاري ومسلم عن سَهْلِ بنِ سَعدٍ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ )). وفي رواية ابن حبّان: (( لاَ تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا لَمْ تَنْتَظِرْ بِفِطْرِهَا النُّجُومَ )).
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ )).
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري "(4/199):
" من البدع المنكرة ما حدث في هذا الزّمان من إيقاع الأذان الثّاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان ... زعماً ممّا أحدثه أنّه للاحتياط في العبادة ... وقد جرّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذّنون إلاّ بعد الغروب بدرجة لتمكين الوقت - زعموا - فأخّروا الفطر، وعجّلوا السّحور، وخالفـوا السـنّـة، فلذلك قـلّ عـنـهم الخـير، وكثـر فيهم الشـرّ، والله المستعان "اهـ.
ورسالة إلى الّذين يفطرون قبل الوقت بزمن.
فإنّ فريقا من النّاس فيه غيرةٌ على السنّة، ربّما قادته إلى الطّرف الآخر وهو الغلوّ !
فتراه يستعجل ويُفطر قبل أن يستيقن الغروب، والواجب عليه أن يعمل بخبر المؤذّن الثّقة الّذي يعلم منه أنّه مستمسك بالسنّة، ولا يفرّط فيها، أو أن يكون الواجب عليه أن يرى الشّمس فعلاً قد غابت بالأفق، فحينها تكون العبرة بما استيقنه ولا تكون العبرة بالأذان.
أقول إنّ عليه أن يتأكّد ولا يستعجل ولا يتساهل، ولا يجرمنّه شنآن قوم فرّطوا في السنّة على أن يفرّط في فريضة من فرائض الدّين ! لأنّه إن أفطر قبل أن يتبيّن الغروب، فإنّ حكمه حينئذ يكون حكمَ من أكل أو شرب متعمّدا ! وارتكب جرما فظيعا، وذنبا شنيعا لا يمكن أن يُكفّر عنه ولو فعل ما فعل.
وإنّ الله قد أعدّ له عذابا في البرزخ، وهو ما رواه ابن حبان والحاكم عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقول:
(( بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَأَخَذَا بِضَبُعَيّ - أي: بعَضُدَيّ -، فَأَتَيَا بِي جَبَلاً وَعْراً، فَقَالاَ لِي: اِصْعَدْ ! حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الجَبَلِ - أي: وسطه - فَإِذَا أَنَا بِصَوْتٍ شَدِيدٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟ قَالاَ: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ !
ثمّ انْطَلَقاَ بِي فَإِذَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ - وهو العصب خلف الكعبين - مُشَقَّقَةً أَشْدَاقُهُمْ - أي: جوانب الفم - تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ ؟ فَقِيلَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ )).
والله تعالى الهادي إلى أقوم السّبيل، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.