تعويذ الصبيّ عند ولادته، ووجوب تحقيق رضاعته، وأزلنا الغشاء وكشفنا النّقاب، عن مسألة اختيار الأسماء والألقاب، ثمّ تكلّمنا عن العقيقة وفضلها، وحلق شعر المولود، والتصدّق بوزنه فضّة قربة للرّحيم الودود، وكان ختام حديثنا أن بيّنّا أنّ من حقوق الأطفال، التماس الرّزق الطّيّب والحلال.
فعلينا أن نعتنِيَ بالبناء من أوّل يوم، حتّى لا يكون علينا عتاب ولا لوم، لأنّه النّبات الحسن الذي ارتضاه الله لعبده الميمون، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.
واليوم إن شاء الله تعالى، نشرع في المقصود، ونبدأ السّعي إلى الهدف المنشود، أقول- أخي المسلم - ذلك، لتحضر قلبك وكامل بالك.
ولتعلم أنّ من ضيّع الحقوق التي فصّلنا في ذكرها، يمكنه أن يعوّض ما فات من خيرها، ويجبر كثيرا من كسرها، فما عليكم معاشر الآباء والأمّهات، أن يضرّكم أو يسوءكم ما فات.
ولا تظنّنّ أنه قد فاتتك القاطرة، أو أضحيت من الفئة الخاسرة، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان:62] فما دام اللّيل يخلف النّهار، فبإمكاننا أن نسارع إلى شكر الواحد القهّار .. ما علينا إلاّ أن نلمّ شتاتنا، ونجمع رفاتنا، فنستدرك ما قد فاتنا.
فكـيـف نـكـسـب أولادنـا ؟
سؤال يطرحه كثير من آبائنا وهم يبكون .. يسأله كثير من إخواننا وهم يشكون .. فاعلموا معاشر المؤمنين أنّ أعظم وأهمّ ما يفتح قلوب الأبناء:
- أوّلا: الدنـوّ منهم.
أي: القرب منهم بملاطفتهم ومداعبتهم، ومحادثتهم وملاعبتهم، بلا إفراط ولا تفريط، فكلامنا هذا لا يعني أن يبالغ الوالد في المخالطة حتّى تذهب هيبته وسلطته، فإنّ هذا مهمّ جدّا في تربية الأبناء، ولكن كما قلنا لا إفراط ولا تفريط:
لا تذهبنّ في الأمـور فـرطا .. لا تسألـنّ إن سألت شطـطا .. وكـن من الناس جميعا وسـطا
وكنت زمنا طويلا، أظنّ أنّ التطرّق لهذه النّقطة، إنّما هو تحصيل حاصل، وتوصيل واصل، لما أراه من شاني، ومن كثير من إخواني، أنّنا فطرنا على ملاعبة أولادنا، ومداعبة فلذات أكبادنا.
حتّى صدمت وفوجئت، وذعرت وفُجعت، من كثير من الآباء والأمّهات، لا يحسنون فنّ الحياة، مع الأولاد والبنات ..
يحسنون الكلام مع الغريب، وقد يجعلون الأجنبيّ كالقريب، فإذا دخل بيته، أبصرته ورأيته، ليس بالهيّن اللّين الذي كان، فد انقلب فرعون أو هامان ! يظنّ أنّ الهيبة والرّجولة، لا تحفظ إلاّ إذا انقلب غولا، فلا يتكلّم أحد أمامه ! أسد عليّ وفي الحروب نعامه !
أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا يا سعد تـورد الإبل
جاء في كتاب " نموّ الذّكاء عند الأطفال ": أنّ الأولاد منذ صغرهم - وخاصّة إذا بلغ سنّ السادسة إلى الثّامنة - يميلون إلى الجلوس إلى آبائهم، ويحلمون بأن يكونوا على مثالهم، ويرغبون في السّماع إلى توجيهاتهم، فينبغي للأب المسلم أن يستغلّ هذه الفرصة وهذا الميل، فيوجّهه التّوجيه الصّحيح المثمر، ويغرس فيه كلّ خير مزهر ..
إليكم ننقل هذه الأخبار، من سيرة المصطفى المختار، لتدركوا أنّه لا بدّ من اللّين والملاطفة، لتحقيق المودّة والمؤالفة ..
فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنّ الأطفال لا يرون الدّنيا بعقولهم وأفهامهم، إنّما يدركونها بأعينهم، بما يشاهدونه من الملاطفة والحبّ والمخالطة.
- روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ ؟! فَمَا نُقَبِّلُهُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ ؟!)).
- وروى البخاري ومسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا ! فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: (( مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ )).
فانظروا كيف يعتبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقبيل الأولاد من مظاهر الرّحمة بهم ؟! وكيف يعتبر عدم الرّحمة بالأولاد من أسباب رحمة ربّ العباد. صلّى الله عليه وسلّم.
- وفي صحيح مسلم قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ )).
وهذا التشديد من النبي صلّى الله عليه وسلّم في العبارة يدلنا على أهمية هذا الأمر الذي قد ينظر إليه الأعراب الغلاظ في أخلاقهم وتقاليدهم منافيا لتمام حزمهم وكمال شخصيتهم، فجعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك علامة نزع الرحمة من القلوب.
ولم يقصر النبي صلّى الله عليه وسلّم تعامله هذا مع أولاده وأحفاده، بل كان عاما مع صبيان المسلمين، فقد روى ابن حبّان عن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ( كَانَ يَزُورُ الأَنْصَارَ، وَيسلِّمُ علَى صِبْيَانِهمْ، وَيَمْسَحُ رُؤُوسَهُمْ ).
فتأمّل كيف كان يلقي السلام على الصبيان ولا يحقرهم ويمسح على رؤوسهم إظهارا للرحمة بهم والعطف عليهم.
- وروى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه وهو من صغار الصحابة قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَلَاةَ الْأُولَى – أي صلاة الظهر – ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، قال: وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي، فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أَوْ رِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ.[والجؤنة: وعاء يضع العطار فيه متاعه].
- وإلى جانب الفعل، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يُظهر حبّه بالقول أيضا، فقد روى البخاري ومسلم عن الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ يَقُولُ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ )).
- ورويا أيضا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ، وَيَقُولُ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا )).
- وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يمازح الأطفال ولا يقول إلا حقّا، فروى أبو داود عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يمازحه ويقول له: (( يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ )).
- وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه:" ينبغي أن يكون الرجل في أهله كالصبيّ، فإذا التمس ما عنده وجد رجلا ".
- وروى النّسائيّ عن شَدَّادٍ بن الهاد قَالَ:
خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ شداد: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي.
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ ؟! قَالَ: (( كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ )).
فلو لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك معه في البيت لما فعله الحسن.
وقد سبق أن ذكرنا لكم قول أنس بن مالك رضي الله عنه:" إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ".
( يُخَالِطُنَا )!!.. إنّه يخبرك عن خاتم النّبيّين، على كثرة انشغاله بأمور المسلمين، وجهاد أعداء الدّين، وسياسة الدّولة الفتيّة، وتعليمهم الأحكام الشّرعيّة، لم يمنعه ذلك كلّه من مخالطة الأولاد.
مررت على المكارم وهي تبكـي *** فقلت علام تنتحب الفتـاةُ
فقالت: كيف لا أبـكي وأهلي *** جميعا دون خلق الله ماتـوا
فأنت مدعوّ للاقتداء بنبيّك صلّى الله عليه وسلّم، فإن لم تتمكّن من مخالطتهم دوما، فخصّص لهم من أيّامك يوما، تجلس فيه إليهم، وتدخل السّرور عليهم، تداعبهم، وتقترب منهم، مستعملا في ذلك الكلمات الطيبة الجميلة، والنّظرات المشفقة الحانية.
وخاصّة إذا كبروا ..
فهذا الحبّ، وهذه الرّحمة، يجب أن يضاعف منهما الوالد والوالدة إذا بلغ الولد أشدّه، فذلك من أعظم ما يأسر قلبه ويشدّه.
روى أبو داود والترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: (( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا حَدِيثًا وَكَلَامًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاطِمَةَ، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ )).
فإنّك إذا حقّقت ذلك، وكنت من أقرب النّاس إلى أولادك، أمكنك أن تغرس فيهم ما شئت من بذور الخير، وإذا حدّثتهم كانوا وكأنّ على رؤوسهم الطّير، وجعلك أولادك وبناتك لهم أوّل صاحب، وأفضل صديق، ما من أمر تأمره به، إلاّ قال سمعا وطاعة، وما من فعل تنهاه عنه إلاّ تركه بكلّ قناعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلاّ على الظّالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وليّ الصّالحين، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وصفيّه وخليله، إمام الأنبياء، وسيّد الأتقياء، وخاتم المرسلين، أمّا بعد:
فإنّ من مظاهر القرب والدنوّ من الأولاد وفلذات الأكباد زيادةً إلى مخالطتهم وملاعبتهم:
- ثانيا: تقديرهم واحترامهم.
إنّ الطّفل في حاجة إلى أن نُشعِره بقدَرٍ من الاحترام والتقدير ورفع الشأن، وإشباع هذه الحاجة يعني قبوله اجتماعيّا وزرع الثقة به واكتساب ثقته.
والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يلقي السلام على الصبيان، ويكنّيهم كما كنّى أبا عمير، ويسمح لهم بحضور مجالس الكبار العلميّة، فينبغي الحذر من تحقيره واحتقار عمله، والحرص على تشجيعه ورفع معنوياته لا كسرها.
وإذا تقدم في السنّ فمن المستحسن أن يُشاوَر في الأمور الّتي تهمّه، فإنّ المشاورة تفتّق العقول، وتزيد في النّضج.
وأثبتت الدّراسات النفسية أنّ الأسوياء كان آباؤهم يلتفتون إلى محاسنهم ويمدحونهم على أعمالهم الحسنة أكثر من انتقاد أخطائهم، ويشاركونهم في اللّعب والعمل كالأصدقاء.
ومن المقرّر: أنّ الطّفل يميل إلى من يقدّره ويحترمه ويبدي الإعجاب بعمله وقوله.
لذلك فإنه إن لم يجد ذلك عند والديه ومعلّميه وجده عند من يشجّعه على الخطأ والانحراف !
ولا ينبغي للوالد أو المربّي: أن يفرض على الولد أن يكون مثله في كلّ شيء، بل يحاول إقناعَه بما هو صواب ليمتثله، ويشجّعه على الاختيار الحسن ليثبت عليه.
- ثالثا: مواساتهم.
فللطّفل عالمه الخاصّ به .. إن كان في نظرك تافها صغيرا، فهو يراه جليلا كبيرا.
فقد يحدث له في ذلك العالم التّافه الصّغير حوادث تؤلمه كعطب يصيب لعبته، أو علامة في الدّراسة أقضّت مضجعه، فعليك: أن تقبل عليه وتواسيه بكلمة حانية طيّبة ولو على سبيل المزاح ..
ومن ذلك ما رواه أحمد عن أنس بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَلَهَا ابْنٌ مِنْ أَبِي طَلْحَةَ يُكْنَى أَبَا عُمَيْرٍ، وَكَانَ يُمَازِحُهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ: (( مَالِي أَرَى أَبَا عُمَيْرٍ حَزِينًا ؟))، فَقَالُوا: مَاتَ نُغَرُهُ [أي: طائره] الَّذِي كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟)).
أمّا عدم الاهتمام بشؤون الأولاد - خصوصاً إذا كبروا- وكانوا بحاجة ماسّة إلى نصائحك وإلى توجيهاتك وإلى مساعداتك، فإنّ هذا من أعظم عوائق التّربية، وينشأ عنه أمور خطيرة، وأرى أعظمها ثلاثة:
1- الجهل بأحكام الدّين:
فينشأ الولد أو البنت، كلّ منهما يجهل أمر دينه، وما يتعلّق بحقوق ربّ العالمين، فربّما بلغ الولد ووالده لا يدري ! ربّما كان الولد يجهل نواقض الوضوء والغسل .. ربّما كان يجهل أسباب الانحراف فيقع في حبائلها وشباكها مع سنّ المراهقة وهو لا يدري ..
فإن رأى ولدك بينك وبينه بعدا، وجعلت بينك وبينه سدّا، فأنّى له أن يأتيك ويقصدك لتعلّم دينه الّذي هو عصمة أمره ؟!
ومن أعجب القصص أنّ فتاة، حان موعد زفافها، وقرب أسعد لحظات حياتها، ولكنّك تراها حزينة باكية، ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
فقالت: قد حان موعد زفافي ..
أهي دموع الفرح ؟!.. كلاّ .. إنّها دموع حسرة وترح .. أتدرون لماذا ؟ لأنّ يوم زفافها صادف يوم عادتها ..
فقيل لها: أولا يمكن أن تحدّثي أهلها بذلك ؟ ففزعت وكأنّها رأت المهالك ..
فمن المستحيل – حسب نمط تربيتها – أن تفتح موضوعا مثل هذا مع والدتها ! فلا تسأل عن والدها ..
سبحان الله !.. ما الذي أوصلهم إلى هذا الوضع المخزي ؟!..
إنّه البعد عنهم، وعدم السّماع منهم، والاحتكاك بهم ..
قد يجتمع أفراد الأسرة على رؤية أفلام اللّهو والمجون، ولكن أن تسأل والدها أو والدتها عن أمر دينها، وطاعة ربّها، فهنا يدّعي الجميع الحياء !..
2- السّكوت عن الخطأ:
فقد يكون الوالد أو الوالدة على خطأ عظيم في حقّ أولادهم، ويزداد هذا الخطأ نموّا مع مرور أيّامهم، لماذا ؟
لوجود ذلك الحاجز المنيع .. لا يصل صوت كلّ منهما إلى الآخر ..
أمّا لو كان هناك احتكاك ومخالطة، ونقاش ومحادثة، فسيمكن للولد أن يفاتح والديه في الموضوع كصديق يحادث صديقه، ورفيق يناصح رفيقه..{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: من الآية94].
ومن القصص المؤثّرة في ذلك:
أنّ أبا كان يمانع في زواج ابنته إلاّ من فئة مُعَيّنة، أو طائفة معيّنة، أو أصحاب الأموال.
وهذا من أعظم ما يجنيه الوالدان على أولادهم، فجاوزت الفتاة سنّ الزّواج، فشاء الله تعالى أن تُصاب بمرض عُضال، فحضرتها الوفاة.
فدعَت أباها .. فقالت: يا أبتِ، قل: آمين. فقال الأب: آمين. ثم قالت الثانية: يا أبتِ قل: آمين فقال: آمين، فقالت الثالثة كذلك. فقال أبوها: ولكن على ماذا أقول آمين. قالت: حرمَك الله من الجنة كما حرمتني من الزواج !
وفاضت روحها.
فلا تتصوّر تعاسة ذلك الأب ! وكم تحمَّل من العذاب في حياته بعد موت ابنته ؟ وكم نَدِم، ولكن مع الأسف الشديد ولات حين مَنْدَم.
وقصّة أخرى كتلك:
أن رجلاً كان أباً لثلاث بنات، ومنع تزويجهن إلاّ من أصحاب الأموال أو الجاه، وكبرت البنات ولم يتقدّم إليهنّ أحد !
فلمّا حضرته الوفاة دعا بناته الثلاث، فقال لهنّ:
أرجو العفو والسّماح منكنّ، فقد أخطأت في حَقِّكن إذ لم أُزوّجكُنّ.
فقُلن بلسان واحد: لك ما شئت يا أبتِ إلاّ المسامحة ! نسأل الله العفو والعافية.
إنّه كان على خطأ .. نعم .. ولا أحد يجرؤ على بيانه، لأنّه بنى بينه وبينهم سدّا .. ووضع بينهم حدّا ..
ومن الأخطار النّاجمة عن البعد:
3-الفراغ المهلك:
فإنّ الزّجاجة الفارغة إن لم تملأها بالماء العذب الزّلال، ملئت بالهواء وسوء الحال.
فإذا لم تكن حاضرا في حياة ولدك وابنتك مربّيا ومعلّما، وناصحا ومفهّما، فسيبحث كلّ منهما عن ناصح خارج البيت ..
ولك أن تتصوّر ما الّذي سيجده خارج البيت ؟!
وقد أثبتت الدّراسات النّفسيّة أنّ 80 % من الفتيات اللاّء يحرمن من حنان الأب والأخ يبحثن عنه خارج البيت.
ليس اليتيم من انتهى أبواه مـن *** همّ الحياة وخلّفاه ذليـلاً
إنّ اليتيم هـو الذي تلقـى له *** أُمّاً تخلّت أو أباً مشغـولا