الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
ففي الصّحيحين عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيِّ رضي الله عنه أَنّ رَسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ )).
أوّلا: معنى الحديث:
قال ابن عبد البرّ رحمه الله في " التّمهيد " (2/285):
" قال قوم:
معناه أنّ البقعة ترفع يوم القيامة، فتُجعل روضةً في الجنّة.
وقال آخرون: هذا على المجاز، كأنّهم يعنون أنّه لمّا كان جلوسه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسُ النّاس إليه يتعلّمون القرآن والإيمان والدّين هناك، شبّه ذلك الموضع بالرّوضة لكرم ما يُجتنى فيها، وأضافها إلى الجنّة، لأنّها تقود إلى الجنّة "اهـ.
ويؤيّد ما ذكره رحمه الله ثانيا ما رواه التّرمذي عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا )) قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: (( حِلَقُ الذِّكْرِ )).
وقال ابن حزم رحمه الله في "المحلّى" (7/283):
" وهذا الحديث ليس على ما يظنّه أهل الجهل من أنّ تلك الرّوضة قطعة منقطعة من الجنّة، هذا باطل .. إنّما هو لفضلها، وأنّ الصّلاة فيها تؤدّي إلى الجنّة " اهـ.
ويؤيّد قول ابن حزم رحمه الله نظائر لهذا الحديث، منها:
ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ )).
وما رواه النّسائي وابن ماجه عَنْ جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ رضي الله عنه جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ ؟ فَقَالَ: (( هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (( فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا )).
ثانيا: هل للعبادة بالرّوضة مزيّة على العبادة في غيرها ؟
اختلف أهل العلم في ذلك:
فمنهم من قال بأفضليّة العبادة في الرّوضة على العبادة في غيرها من بقاع المسجد النّبويّ.
ومنهم من قال: لا دليل على ذلك، ولو كان خيرا لسبقنا إليه الصّحابة والتّابعون، وهم أحرص النّاس على الخير والفضل.
- والظّاهر أنّ مجرّد الجلوس بالرّوضة الشّريفة له مزيّة، فإذا ذكرَ العبدُ ربّه وصلّى بها وتلا القرآن كان أكمل وأحسن.
ويدلّ على هذا:
1- أنّه لو لم يكن للجلوس بها مزيّة على سائر بقاع المسجد، لكان وصف تلك البقعة بأنّها (( رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ )) لغوا وعبثا ! والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم منزّه عن ذلك لا ريب.
2- قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((الْجَنَّة تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ )) فهمنا منه الحضّ على الجهاد وملازمته، وفهمنا من قوله صلّى الله عليه وسلّم عن الأمّ: (( الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا )) الحضّ على التزام برّ الوالدة وتعظيمها، فكذلك يُفهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ )) استحباب الجلوس بالرّوضة.
تنبيه مهمّ:
على قول من قال من أهل العلم: إنّ الصّلاة في الرّوضة الشّريفة أفضل من أيّ مكان في المسجد النّبويّ، فإنّ ذلك خاصّ بالنّافلة، أمّا المكتوبة فأداؤها في الصفّ الأوّل أفضل من أدائها بالرّوضة.
والله تعالى أعلم.