ورواه البخاري والنّسائي وابن ماجه مختصرا: (( عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً )).
ومسلم ولفظه:
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمًّ سِنَانٍ:
(( مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا ؟))
قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ. قَالَ:
(( فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً )).
وفي رواية له:
(( تَعْدِلُ حَجَّةً، أَوْ حَجَّةً مَعِي )).
- *شرح ألفـاظ الحديـث:
- ( أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ ): وذلك العام العاشر من الهجرة، ولم يحجّ صلّى الله عليه وسلّم غيرها.
وسمّيت بحجّة الوداع، لأنّه خاطبهم كالمودّع لهم صلّى الله عليه وسلّم.
- قوله: ( ذَاكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ): أي: هو وقفٌ لله تعالى ليُجاهد عليه المسلمون.
- قولها: ( لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلاَّ نَاضِحَانِ ): أي بعيران نستقي بهما.
والبعير يُسمّى النّاضح والسّانية، وهو الذي يُستخرج به الماء ويسقى به الزّرع، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم عن كسب الحجّام: (( اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ، وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ )).
- الفوائد المستنبطة من الحديث: في هذا الحديث عدّة فوائد:
- الفائدة الأولى: فضل مصاحبة النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم:
ففي هذا الحديث حثّ على مصاحبته في أسفاره لا سيّما الحجّ، ولذلك جاء في صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رضِي الله عنه فَقَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ.
- الفائدة الثّانية: فيه حرص المرأة على العمل الصّالح، وإلحاحها عليه.
- الفائدة الثّالثة: فيه أنّ الحجّ من سبيل الله.
فهل يُعْطى المسلم الّذي لم يجد مالا ليحجّ من الزّكاة لأداء فريضة الحجّ ؟ قولان لأهل العلم:
أ) الأوّل: أنّه لا يجوز، ولا يدخل الحجّ في سبيل الله.
وهو مذهب جمهور العلماء: الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، والثّوريّ وأبي ثور وابن المنذر وهو رواية عن أحمد، وقال ابن قدامة:" إنّه الصّحيح ".
ب) الثّاني: أنّه يجوز، وأنّ الحجّ في سبيل الله، فيصرف فيه من الزّكاة. والأدلّة على ذلك:
1- حديث الباب، فهو صريح في أنّه داخل في قوله تعالى في مصارف الزّكاة:{ وَفِي سَبِيلِ اللهِ }.
2- مَا رواه الإمام أحمد عن أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى أُمِّ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيَّةِ يَسْأَلُهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بَكْرًا لَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ، فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبَكْرَ، فَأَبَى، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا، وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلّم: (( الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ )). [الإرواء(3/372)].
3- وهو مذهب ابن عبّاس، وابن عمر رضي الله عنهم، والحسن، وهو قول أحمد في رواية، وإسحاق، والبخاري.
- قال الإمام البخاري:" بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ }، وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:" يُعْتِقُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَيُعْطِي فِي الْحَجِّ "، ووصله أبو عبيد في " كتاب الأموال " بسند صحيح.
- وروى أبو عبيد أيضا عنه أنّه " كان يخرج زكاته ثم يقول: جهّزوا منها إلى الحجّ ". وكذا روى عنه ابن أبي شيبة (4/41) أنه كان لا يرى به بأسا.
- وروى أبو عبيد عن ابن عمر أنّه قال:" أما إنّ الحج من سبيل الله "قال الحافظ:" إسناده صحيح عنه ".["الإرواء " (3/376)]
- وعلق البخاري كذلك عن الحسن، حيث قال: قَالَ الْحَسَنُ:" وَيُعْطِي فِي الْمُجَاهِدِينَ وَالَّذِي لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ تَلَا: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ، فِي أَيِّهَا أَعْطَيْتَ أَجْزَأَتْ ". وقد وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح.
- وقال عبد الله بن الإمام أحمد في" مسائله "(ص134):" سمعت أبي يقول: يُعطَى من الزّكاة في الحجّ لأنّه من سبيل الله "،
وكذا روى إسحاق المروزي عن أحمد وإسحاق.
- قال ابن تيمية رحمه الله تعالى – كما في " مجموع الفتاوى "(28/274) -:
" { وَفِى سَبِيلِ اللهِ }: وهم الغزاة الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم، فيُعطَوْن ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به، من خيل وسلاح ونفقة وأجرة، والحجّ من سبيل الله، كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم "اهـ.
وشرط إعطاء الزّكاة للحجّ: أن يكون حجّه حجّ الفريضة خاصّة، فلا يُعْطَى لحجّ النّافلة.
- الفائدة الرّابعة: فضل العمرة في رمضان:
- وذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ( فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً )، وفي الرّواية الأخرى: ( تَقْضِي حَجَّةً ) أي تقوم مقامها في الثّواب، لا أنّها تعدلها في كلّ شيء، فإنّه لو كان عليه حجّة فاعتمر في رمضان لا تجزئه عن الحجّة.
وجاءت رواية – ذكرها المصنّف بعد - فيها قوله صلّى الله عليه وسلّم لأمّ سُليم: (((( يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ! عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي ))، فـ{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس :58].
والله أعلم وأعزّ وأكرم.
وفي معنى هذا الحديث أحاديث أخرى ذكرها المصنّف رحمه الله تحت هذا الباب.