الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
- فاعلم أنّ اليمين المنعقدة إن كانت على فعل معصية أو ترك واجب، فيحرم البرّ فيها، ويجب الحنث.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَاللَّهِ لأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِىَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ )).
ومعنى الحديث: أنّ من حلف يميناً تتعلّق بأهله حيثُ يتضرّرون بعدم حنثه فيه، فينبغي أن يحنث فيفعل ذلك الشّيء ويُكَفِّر عن يمينه.
فإنْ قال: لا أحنث، بل أتورّع عن ارتكاب الحنث خشية الإثم، فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره على عدم الحنث وإقامة الضرر لأهله أكثر إثما من الحنث.
- كذلك لو كانت على فعل مكروه، أو ترك مستحبّ، فيُستحبّ الحنث، ويكره البرّ بالقسم، لما رواه مسلم عن أبى هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ )).
وفي الصّحيحين عن عبدِ الرّحمنِ بنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: ((.. وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ )). ومن هذا الباب قوله تعالى عن الصّديث رضي الله عنه يوم حلف على أن يُنفِق على مِسْطَحٍ:{وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُلِي القُرْبَى}.
لذلك كان من حلف على أن لا يكلّم أحد أفراد العائلة، وهجَرَه لغير داعٍ شرعيّ: معصية، يجب الحنث فيها.
- أمّا الكفّارة فقد ذكرها الله تعالى في سورة المائدة فقال:{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}.
فأنت مخيّر بين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، ولمّا كان الغالب والأيسر هو الإطعام، فنبيّن لك طريقة ذلك:
فلا يخلو حال المكفّر من حالين:
1- أن يجد عشرة مساكين، فهنا يجب عليه إطعامهم وأن يتقيّد بالعدد، فلا يطعم مسكينا عشرة مرّات، ولا مسكينين خمس مرّات وهكذا، وهو مذهب مالك والشّافعيّ وأحمد في المشهور، وابن حزم رحمهم الله جميعا.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجزئ أن يطعم مسكينا عشر مرّات. لكنّ النصّ مع جمهور العلماء.
2- وإمّا أن لا يجد، أو يشقّ عليه إيجاد عشرة مساكين، فهنا يجوز له:
أ) أن يصرف الطّعام إلى مسكين عشر مرّات.
ب) أو يشتري مقدارَ طَعَامِ عشرة مساكين، ويتصدّق به إلى أهل بيت ( أسرة )، أو ( أسرتين ).
والدّليل على ذلك: القياس على كفّارة من جامع أهله في نهار رمضان؛ فقد جاء في الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: إِنَّ الْأَخِرَ- يعني نفسه- وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ ؟ فَقَالَ: (( أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً ؟ )) قَالَ: لَا، قَالَ: (( فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟)) قَالَ: لَا، قَالَ: (( أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟)) قَالَ: لَا، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ-وَهُوَ الزَّبِيلُ- قَالَ: (( أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ )) قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا ؟! مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا، قَالَ: (( فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ )).
ووجه الدّلالة أنّه صرف الكفّارة على أهل بيت يأكلون منها، ويبعُد جدّا أن يكون عدد الأسرة هذه ستّين.
والله أعلم.