تعالوا بنا لا لنصرخ، فإنّ الصّراخ يُطفئ اللّهيب الّذي في الصّدور، ونحن في أمسّ الحاجة إلى ما ندفع به مراكبنا ..
تعالوا بنا لا لنسدّ جمعةً من الجمعات، ونتخلّص من واجب من الواجبات ..
تعالوا بنا نتحدّث لا لنصرف وجوه النّاس إلينا كما هو حال كثير من وسائل الإعلام ..
تعالوا بنا نتكلّم لا لنَبْنِي مجدا على عرضِ سيّد العباد كما بناه كثير من النّاس على أشلاء فلسطين والقوقاز وبغداد ..
تعالوا بنا نتحدّث عن هذا الموضوع في نقاط أربع:
الأولى: إلاّ تنصروه فقد نصره الله ..
الثّانية: أنواع الجهاد لنصرة خير العباد ..
الثّالثة: من المحن تأتي المنح ..
الرّابعة: أين الدّاء ..
• النّقطة الأولى: إلاّ تنصروه فقد نصره اللّه ..
فإنّ الطّعن في نبيّ الأمّة صلّى الله عليه وسلّم ليس بالشّيء الجديد، ولا بالأمر المفاجئ البعيد، فهو سنّة يسير عليها كلّ من كفر بالله العزيز الحميد، قال تعالى:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10]، وقال:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: من الآية43]، وقال:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4]، وقال:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذّاريات:52].. مسلسل فظيع طويل، لا ينقطع حتّى يرث الأرضَ العليُّ الجليل ..
ولكن .. أين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأين أولئك القادحون ؟..
ما كان مثلهم إلاّ كمثل من رفع وجهه إلى السّماء ليبصق عليها، فما لبث أن مسح البُصاق عن وجهه هو ..
وقديما قيل: " ما يضرّ السّحاب نبحُ الكلاب "..
وقيل: ( يا ناطـحـا جبلا يوما ليوهنه *** أشفق على الرأس لا تُشفق على الجبل ).
نعم، لقد أوجب الله على المؤمنين نُصرة النبيّ الأمين صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه سبحانه أغنى رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن نصر الخلق، فقال تعالى:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95]، وقال:{إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّه} [التوبة: من الآية40]، ووعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنّه قاطع من ناله بالسّوء فقال:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3]..
وإليك هذه الصّور المشرقة الّتي تبيّن لك أنّ الله عند وعده لا يخلف الله الميعاد ..
1- روى الإمام الطّبري رحمه الله عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" لمّا قدِم كعبُ بن الأشرف مكَّة قالت له قريش: أنت خيرُ أهلِ المدينة وسيّدهم. قال: نعم !، قالوا: ألا ترى إلى هذا الصّنبور المنبتر من قومه، يزعم أنّه خير منّا ونحن أهل الحجيج وأهل السّدانة وأهل السّقاية ؟! قال: أنتم خير منه. فأُنزلت:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}،
2- بل حتّى مصير الكفّار أنفسهم يختلف باختلاف موقفهم من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
فشتّان بين كافر طاعن في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكافر يحترمه ويقدّره، ولا أجد لك أمثلة على ذلك إلاّ مثل رجلين من عظماء قومهما، كلاهما مات كافرا، ولكنّ أحدهما لا يُذكر إلاّ ومعه لعائن النّاس أجمعين، والثّاني لا يُذكر إلاّ وودّ المسلمون لو مات مؤمنا .. وكلاهما تربطه بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم رابطة من أقوى الرّوابط .. إنّهما أبو لهب وأبو طالب ..
أمّا أبو لهب فإنّه لمّا آذى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوجب الله له من العذاب ما لم يوجبه لغيره، روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي:
(( يَا بَنِي فِهْرٍ ! يَا بَنِي عَدِيٍّ !))- لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ ؟ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟)) قَالُوا: نَعَمْ ! مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا..
قَالَ: (( فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )).
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}"..
أمّا أبو طالب، فإنّه لمّا أعان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونصره وذبّ عنه خفّف الله عنه العذاب، فهو من أخفّ أهل النّار عذابا ..
أمّا في النّساء فكانت أوّل مكذّبة هي أمّ جميل بنت حرب زوج أبي لهب، فانتفضت انتفاضة رهيبة حين بلغها ما نزل فيها وفي زوجها من قرآن:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}..
فقد ضاق صدرها بهذا اللّهب، روى البيهقي بسند حسن عن أسماء رضي الله عنها أنّ أمّ جميل خرجت كمن به جنّة لا تلوي على شيء، تبحث هنا وهناك في الدّور والطّرقات عن انتقام يُخمِد شيئا من نارها، ويغسل شيئا من عارها، فقصدت المسجد الحرام، فرأت أبا بكر رضي الله عنه فأقبلت ولها ولولة، وفي يدها فِهر، وهي تقول:
" مذمّما أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا "، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم جالس في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه.
فلماّ رآها أبو بكر قال: يا رسول الله ! ها هي قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي )) وقرأ قرآنا فاعتصم به:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45]..فوقفت على رأس أبي بكر، ولم تر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا أبا بكر ! إنّي أُخبرت أنّ صاحبك هجاني ؟ فقال: لا وربّ هذا البيت ما هجاك.
فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أنّي ابنة سيّدها.
وفي رواية أخرى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: (( قل لها: تريْنَ عندِي أحداً، فإنّها لن تراني، قد جعل الله بيني وبينها حجابا )).
فسألها أبو بكر، فقالت: أتهزأ بي يا ابن أبي قحافة، والله ما رأى عندك من أحد..
ويذكّرنا ذلك بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ ؟ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ ))..
قال ابن تيمية رحمه الله: " وكان سبحانه يحميه ويصرف عنه أذى النّاس وشتمهم بكلّ طريق، حتّى في اللّفظ ..".
3-والّذي يُلقِي نظرة خاطفة في سيرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سيرى كيف أهلك الله من استهزأ به وسخر منه واحدا واحدا:
روى مسلم عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ: لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ.
حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم صَلَاتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: (( اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )).
فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: (( اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ )).
فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وسلّم بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
4-وننتقل من مكّة إلى خارجها، لترى عاقبة ملكين كافرين، كلاهما ردّ الحقّ الّذي جاء به سيّد الخلق، ولكنّ أحدهما لم يعُد له ولا لقومه ذكر، والثّاني خلّد الله له ملكه.
أمّا أوّلهما فهو كسرى ملك الفرس، قرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستشاط كبرا وغضبا .. كيف يبعث عربيّ إليه برسالة يقدّم فيها المطالب بدلا من أن يقدّم له الولاء والطّاعة مقرونين بالهدايا والضّرائب .. هذا لا يحتمله رجل وثنيّ فكيف بعظيم الفرس .. روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى حَرَّقَهُ [وَمَزَّقَهُ].. قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.
أمّا الثّاني فهرقل ملك الرّوم، الّذي سأل عن أمور دعا إليها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فما كان منه إلاّ أن قال: " فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ !! "..
إنّ من الكلام السّائر: " لحوم العلماء مسمومة "، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السّلام ؟!
وفي صحيح البخاري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ "))، فكيف بمن عادى الأنبياء ؟!
•النّقطة الثّانية: أنواع الجهاد لنصرة خير العباد ..
ممّا سردناه عليكم ونقلناه إليكم، قد يقول قائل منّا: إذا كان الله تعالى قد كفى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم نصرته، فلماذا أوجب على المسلمين نصره وتعزيره والذبّ عنه ؟
ألا فاعلم أنّ الله قد تكفّل بحفظ كتابه ودينه، ومع ذلك أمرنا بحمل راية الجهاد في سبيل إعلاء كلمته، وذلك ليتعبّدنا بذلك، وليُظهر الصّادق منّا والكاذب، ففرق شاسع وبون واسع بين محبّة الأتقياء ومحبّة الأدعياء، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].
فإذا أردت معرفة سبل نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعلم أنّ أعظم السّبل إلى ذلك:
1- هو اتّباع سنّته، وإحياء طريقته، ونشر معالم ملّته .. فذلك هو أوّل برهان على تعظيمه ومحبّته .. وإلاّ فكما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الّذي رواه مسلم: (( مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ )).. وصدق من قال:
إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبيّن من بـكى ممّن تبـاكى
وكلّ يـدّعي وصـلا بليلى *** وليلى لا تقـرّ لهـم بـذاك
2- بالمال إمّا بدفعه أو بمنعه .. فهذا هو معنى انتمائك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ..
بدفعه أن تقدّم من مالك لا أقول كلّه كما فعل أبو بكر، ولا شطره كما فعل عمر، ولكن بعضه، تدفعه لنشر الوعي بين المسلمين، وسنن سيّد المرسلين.
أو بمنعه، ولا أجد لك مثالا على ذلك مثل قصّة ثمامة بن أثال الحنفي سيّد بني حنيفة ..
كان يعلنها صريحة:" وَاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِ مُحَمَّدٍ ! ".. اليوم يريد أن يجسّد هذه المشاعر فيجعلها واقعا عمليّا .. ولكنّه وقع في الأسر ..
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
بَعَثَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ " ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ "[سَيِّدِ أَهْلِ اليَمَامَةِ]، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ:
(( مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟))
فَقَالَ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ ! إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَتُرِكَ، حَتَّى كَانَ الْغَدُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: (( مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟ )) قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ.
فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: (( مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ )) فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ.
فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ )).
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى ؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ.
ولقد حوّلت أخلاق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمامة إلى وليّ حميم .. فبعد أن كان أبغض النّاس إليه .. ودّع النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه متّجها إلى مَهمَّة أسمى وأرقى بعد أن اغتسل بنهر حياة أخرى .. تتمّة الرّواية في الصّحيحين:
فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ ؟! قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ-وكانت ريف مكّة- حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم..
اليوم حال بين قريش وحنطتها أحد جنود الله، فأصاب قريشا جَهْدٌ شديد، روى البيهقيّ في " الدّلائل " (4/81) عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: " رجع ثمامة فحال بين أهل مكّة وبين المِيرة من اليمامة حتّى أكلت قريش الدّماء "…
وأشرفت قريش على الهلاك، فكتبوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يناشدونه الرّحم مستغيثين أن يكتب إلى ثُمامة يخلّي إليهم حمل الطّعام، ففعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
3- ومن أنواع الجهاد لنصرة خير العباد صلّى الله عليه وسلّم: الجهاد باليد ..
روى أبو داود عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه أنّ أعمى كانت له أمّ ولدٍ تشتم النبي ّ صلّى الله عليه وسلّم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنـزجر، قال: فلمّا كانت ذات ليلة، جعلت تقع في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتشتمه، فأخذ المِغوَلَ ( سيف قصير دقيق ) فوضعه في بطنها فقتلها، فذُكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجمع النّاس فقال: (( أُنشد الله رجلاً فعل ما فعل إلاّ قام ))، فقام الأعمى يتخطّى النّاس فقال:" يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر " فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلاَ فَاشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ )).
هذه هي الغيرة لله وعلى دين الله وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
( أغار لك من نفسي ومنّي *** وذاك في سبيل الله ما حياني
ولو أنّي خبّأتك في عيوني *** إلى يوم القيامة ما كفانـي )
4- ومن أنواع الجهاد: اللّسان ..
ولا يخفى على أحد ما كان يفعل شعر حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما في المشركين ..
روى التّرمذي والنّسائيّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ *** الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ ! بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ ؟! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ ! فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ )).
الخطبة الثّانية:
•النّقطة الثّالثة: من المحن تأتي المنح ..
يقول الله تعالى في حادثة الإفك، وكانت زلزالا عنيفا هزّ المدينة وقلوب أهلها:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم} [النور: من الآية11]..
فمن الأمور الّتي يغنمها المسلمون من وراء هذه الأحداث:
* بُشرى بنصر وفتح قريب في مجالات الدّعوة إلى الله ..
فاعلم أنّه متى سُبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنّ الله منجزٌ وعده ولو ضعُف المسلمون، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " الصّارم المسلول على شاتم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم" :
" حدّثنا أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عمّا جرّبوه مرّات متعدّدة في حصر الحصون والمدائن الّتي بالسّواحل الشّامية، لمّا حاصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنّا نحن نحاصر الحصن أو المدينة الشّهر أو أكثر من الشّهر وهو ممتنع علينا، حتّى نكاد نيأس منه، حتّى إذا تعرّض أهله لسبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والوقيعة في عرضه تعجّلنا فتحا وتيسيرا، ولم يكد يتأخّر إلاّ يوما أو يومين أو نحو ذلك، ثمّ يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتّى إن كنّا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوا فيه، وهكذا حدّثني بعض أصحابنا الثّقات أنّ المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النّصارى كذلك، ومن سنّة الله أن يعذّب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين ".
وتأمّل معي قصّة ظفر خاتون، زوجة القائد المغوليّ هولاكو: هذه المرأة تنصّرت واتّبعت الدّعاة إلى النّصرانيّة ذلك الزّمان، قال ابن كثير عنها في " البداية والنّهاية ":
" وكانت تفضّل النّصارى على سائر الخلق ". وكانت تُقيم حفلا لمن تنصّر من الأمراء، فجعل أحدهم يقع في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان هناك كلب مربوط مقيّد، فانتفض انتفاضة الأسد الهصور، وألقى بأنيابه كلّها في رقبته حتّى أرداه قتيلا، قال ابن حجر رحمه الله: " فأسلم أربعون ألف رجل من النّصارى ".
•ظهور مشاعر المسلمين تُجاه دينهم، وهذا لا شكّ أنّه أمر يدلّ على أنّ هناك خيرا في قلوب هذه الأمّة، وأنّ التّقصير لا يعني أبدا نسيان مقام البشير النّذير:
( نسينا في ودادك كلّ غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نُلام على محبّتكم ويكفي لنا شرف نلام ومـا علينا
ما لقيناكم، ولكنّ حبّا يذكرّنا بكم فكيف إذا التقينا
تسلّى النّاس بالدّنيا وإنّا لعمر الله بعدكم مـا سلينا )
• تذكير المؤمنين بموقف الكافرين، وإحياء عقيدة الولاء والبراء بعد أن كاد يخبو نورها، ويذهب ضوؤها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]..
فأين أدعياء التّقارب بين الأديان والملل والنّحل ..
• النّقطة الرّابعة: أين الدّاء ..
ألا فاعلموا معاشر المؤمنين أنّ الدّاء ليس بالخارج ولكنّ حصوننا مهدّدة من الدّاخل ..
من الظّلم الّّذي لا يرضاه الله تعالى أن نقيم الدّنيا ولا نقعِدها على كافر بالله لا يُستبعد منه أن يقول ما يقول، ثمّ نسكت عمّن يسبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بين أظهرنا، وأقصد بذلك مخالفات يقع فيها من هم من بني جلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا:
الصّنف الأوّل: العوامّ المستهزئون بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
وهم يريدون بذلك التّنكيت والضّحك، وغير ذلك، فتسمع بعض النّكت تمسّ سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومظاهر الالتزام عن قرب، فهذا يسخر من اللّحى، وذاك من نصف السّاق، وثالثة من جلباب المرأة المسلمة، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم-فيما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه-: (( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ))..
بل إنّك لتسمع أحدهم وهو يفضّل النّصارى على المسلمين، فيقول: أولئك أولاد سيّدنا عيسى، وهؤلاء أولاد محمّد صلّى الله عليه وسلّم !.. ألا فليعلم هؤلاء أنّ هذا سبّ صريح للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأهل ملّته ..
ومنهم من يردّ الأحاديث الثّابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وربّما سخر منها، فليستمع إلى ما أخرجه الطّبراني وغيره عن زكريّا السّاجي قال: " كنّا نمشي في بعض أزقّة البصرة لبعض المحدّثين، فأسرعنا، فقال رجل كان معنا ماجن: أنتم تزعمون أنّ الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رِضًا بما يصنع ؟ قلنا: نعم، هو حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها-كالمستهزئ- فما زال من محلّه حتّى جفت رجلاه وسقط، فما زال ينتفض حتّى مات ".
الصّنف الثّاني: العلمانيّون، وهم أسعد النّاس بهذه الحملة الّتي تقام على المسلمين:
وقد سبق أن ذكرنا لكم أنّ هناك جرائد محلّية طالما تبثّ رسوما وكاريكاتورات فيها قدح وطعن في الله عزّ وجلّ والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وملّته .. فعلى المسلمين أن يقوموا قومة رجل واحد في وجوه هؤلاء، ليرفعوا دعاوى قضائيّة ضدّهم تردّهم إلى جحورهم، وتجعل كيدهم في نحورهم ..
فنسأل الله تعالى أن يوفّقنا إلى العمل بمرضاته، إنّه سميع قريب مجيب ..