مَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ ؟ فَقَالَ:
(( إِنَّ المَوْتَ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا )).
ثمّ اختلف أهل العلم في هذا الحكم: أهو محكمٌ باقٍ على الوجوب، أم هو منسوخ، أم هو مندوب فقط ؟
فكان للعلماء أقوال ثلاثة:
- القول الأوّل: أنّ القيام منسوخ.
وذلك لما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه ترك القيام لها.
روى مسلم عن علِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قال فِي شَأْنِ الْجَنَائِزِ: ( إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَامَ، ثُمَّ قَعَدَ ).
وفي رواية لمسلم أيضا عنه رضي الله عنه قال: ( رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا ) يعنِي فِي الجَنَازَةِ.
قال القاضي عياض رحمه الله:" ذهب جمع من السّلف إلى أنّ الأمر بالقيام منسوخ بحديث عليّ رضي الله عنه ".
وهو مذهب الشّافعيّ رحمه الله، قال:" والحجّة في الآخر من أمره، والقعود أحبّ إليّ ".
ومن ثمَّ قال بكراهة القيام جماعة منهم سليم الرّازي وغيره من الشّافعية.
- القول الثّاني: أنّه محكم باق على الوجوب.
عزاه ابن حجر رحمه الله إلى بعض السّلف، وحجّتهم ما رواه النّسائي بسند حسن عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه وأبي سعيدٍ رضي الله عنه قالا:
( مَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم شَهِدَ جَنَازَةً قَطُّ فَجَلَسَ حَتَّى تُوضَعَ ).
وقال الشّعبي والنّخعي: يكره القعودُ قبل أن توضع.
ولو حملنا معنى الكراهة على التّحريم لكان قولهما يفيد وجوب القيام.
- القول الثّالث: أنّ القيام مندوب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" أكثر الصّحابة والتّابعين باستحبابه، كما نقله ابن المنذر، وهو قول الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمّد بن الحسن.
فقد روى البيهقي عن أبي هريرةَ وابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وغيرِهما: ( أَنَّ القَائِمَ مِثْلُ الحَامِلِ ) يعني في الأجر.
وقال ابن حبيب وابن الماجشون رحمهما الله من المالكيّة:" كان قعوده صلّى الله عليه وسلّم لبيان الجواز، فمن جلس فهو في سعة، ومن قام فله أجر ".
وبالاستحباب قال النّووي رحمه الله، ونسبه إلى بعض الشّافعيّة، وأفاد بأنّ النّسخ لا يُصار إليه إلاّ إذا تعذّر الجمع.
وردّ ابن حزم رحمه الله على القائلين بالنّسخ قائلا:" قعوده صلّى الله عليه وسلّم بعد أمره بالقيام يدلّ على أنّ الأمر للنّدب، ولا يجوز أن يكون نسخا، لأنّ النّسخ لا يكون إلاّ بنهي أو بترك معه نهي " اهـ.
وقال ابن القيّم رحمه الله في " الزّاد ":" وهذا أولى من ادّعاء النسخ ".
وهو ظاهر كلام ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى الكبرى "(4/445).
التّرجيح:
إنّ كلام القائلين بالاستحباب قويٌّ غايةً، فإنّ النّسخ لا يثبت بمجرّد الفعل، وإنّما لا بدّ من أمر أو نهي إلى جانب الفعل.
ولكنّ الأمر قد ثبت بالجلوس،, وهو ما رواه أبو داود والتّرمذي وابن ماجه بسند حسنٍ عن عبادةَ بنِ الصّامِتِ رضي الله عنه قالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُومُ فِي الجَنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ، فَمَرَّ بِهِ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ، فَقالَ: هَكَذَا نَفْعَلُ.
فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَالَ: (( اجْلِسُوا، خَالِفُوهُمْ )).
فمن اعتقد صحّةَ أو حُسنَ الحديث وجب عليه القول بالنّسخ.
أمّا من اعتقدَ ضعفَ الحديث، فيلزمُه القول بالاستحباب.
والله تعالى أعلم.