أوّل ما نبتدئ به: تعزية من ذهب عنه فصلُ الصّيف دون أن يغْنَم منه شيئا من الأعمال الصّالحة الباقية .. ضيّعه كاملا دون أن ينتفع منه، وسيُسأل عنه يوم القيامة؛ لأنّ أيّام الصّيف والعُطَل داخلةٌ في العُمُر الّذي يسألنا المولى عزّ وجلّ عنه.
وكذلك نهنّئُ من اغتنمَ أطولَ أيّام السنة في العلم النّافع والعمل الصّالح .. في التفقّه في الدّين، وحفظ القرآن، وفي الدّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وغير ذلك من الأعمال الصّالحة.الوقفة الثّانية: بين علوم الدّنيا وعلوم الدّين.
أيّها الآباء .. مهمّ جدّا أن يدرُسَ أولادُكم في المدرسة ليتعلّموا القراءة، والكتابة، والحساب، وغيرها من العلوم الّتي تنفعهم في دنياهم، لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك: أن يتعلّم أولادُكم عقيدتَهم، وأخلاقَهم، فأين الاهتمام بها وأين الاعتناء بها ؟
أيّها الأب .. أين أنت من قول لقمان لابنه:{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ؟ {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:17-19] ؟
أيّها الأب .. إنّك مسئول عن تعليم أولادك، وإنّك مسئول عن عقيدتهم قبل ذلك، قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ )) [متفق عليه].
الوقفة الثّالثة: اهتمام كبير بمستقبل الأولاد.
في هذه الأيّام يظهر من الآباء اهتمامٌ كبيرٌ بمستقبل أولادِهم الدّنيوي: ماذا يكون هذا الابن ؟ مهندساً، أو طبيباً، أو طيّاراً ... الخ.
ولكنّهم يُهمِلون إهمالاً تامّا المستقبلَ الأهمّ الأبعدَ والأدوم: المستقبلَ الأخرويّ ! فهلاّ كان تفكيرُهم في مصيرِ أولادهم في الآخرة مثل تفكيرهم في مصيرهم في الدّنيا على الأقلّ ؟! وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التّحريم:6].
فهل أولادكم يعملون بعمل أهلِ الجنّة أم بعمل أهل النّار ؟ هل هم ممّن يقيمون الصّلاة ؟ وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (( مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ )) [رواه أبو داود].
الوقفة الرّابعة: لا تحرّفوا النّصوص.
قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ}.
هذه الآيات وغيرُها ممّا جاء في القرآن والسنّة في مدحِ العلم وأهلِه، إنّما معناها العلمُ بالله، وبرسوله، وبدينه؛ فإنّه العلم الّذي يُمدح بإطلاق، وليس في علوم الدّنيا الّتي إن خلت عن مراقبة شرع الله تعالى كانت مذمومةً بإطلاق، وقال تعالى عن أهلها:{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
الوقفة الخامسة: على الأقل أصلح النية.
إنّ علومَ الدّنيا قد تكون نافعةً في الآخرة لمن خلُصت نيّتُه وأراد الخير لأمّته ولأهله، وسلفُنا كانوا يحتسبون الأجرَ في النّوم والطّعام، فكيف لا نحتسب أجر علوم الدّنيا مع كثرة ما نُنْفِق فيها من أوقات وأموال ؟
فمن كانت نيّتُه إعزازَ أمّة الإسلام، وإعدادَ القوّة لمواجهة فراعنة العصر، فهذا إن شاء الله من المحسنين، مأجور على نيّته وعمله.
ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو سمعة يكسبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه.
وننبّه هنا إلى أنّ من الآباء من يُفسِد نيّاتِ الأبناء، يقولون: تعلّم لأجل المنصِب ! وتعلّم من أجل المال !
الوقفة السادسة: ها هو الشرف لمن يريده.
كثيرٌ من الآباء لا يهمّه مِن تعلّمِ أبنائِه إلاّ أن يقال له: ابنه فلان ذا منصب كذا ! إلاّ نيل شرف زائلٍ ! وهذا من النيّات الفاسدة.
ونحن ندلّهم على شرف عظيم، رغّبهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في تحصيله، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ: لَهُ هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ.
فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ ؟! فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ، وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ )) [رواه أحمد].
وأين شرف الدنيا من شرف الآخرة ؟ أين هذا من ذاك ؟
الخطبة الثانية.
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلاّ على الظّالمين، أمّا بعد:
الوقفة السّابعة وهي الأخيرة: أيّها الآباء المهمة لم تنته.
لا تنتهي مَهمّة الآباء بإيصال الأولاد إلى باب المدرسة، كما أنّها لا تنتهي بإدخالهم المسجدَ، بل هناك تبدأ مسؤوليّات جديدةٌ على الآباء:
وذلك من جانب تعليمِهم الأدبَ الواجبَ في المدرسة: الأدبَ مع المعلِّمِ، ومع الزّملاء، والأدب في تحصيل العلم، وكذلك من جانب التّحذير من الآفات الموجودة في المدرسة الّتي لم يعهدُوها من قبل.
1- وإنّ من واجب الأب أن يختار لابنه أحسنَ المدراس سُمعةً، وأن يختار له في المدرسة أحسنَ المعلّمين .. من واجبه أن يختار له الوسط الصّالح، والمعلّمَ القدوة. وإن لم يفعل فإنه يكون داخلا في معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ )).
2- ومن واجب الأب أيضا: تدارُكُ النّقائص الّتي في المدرسة: في برامج التّعليم كتحفيظ القرآن، وتلقين العقيدة الإسلاميّة، وكذلك عليه أن يُصحِّح لأولادِه المفاهيمَ المغلوطةَ الّتي يتلقّوْنَها في المدرسة، وما أكثرها مع الأسف الشّديد !
3- وليحذر الآباء أن يجعلوا من موسِمِ الدّخول المدرسيّ موعداً للانقطاع عن المسجد، وعن الدّراسة المسجدية؛ فإنّ ذلك من أعظم الأغلاط، ومظاهر الجناية على الأولاد، وعلى مستقبلهم في الدّنيا والآخرة.
4- ومن واجب الآباء: تحذير الأولاد من المفاسد في المدرسة، وعلى رأس تلك المفاسد: الاختلاط بين الجِنسَين، فلا بدّ من تحذير الأولاد ذكوراً وإناثا منه، وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ )) [متفق عليه].
ومن واجبهم: مراقبتُهم، ومتابعتُهم في هذا الشّأن وخاصّة البنات، مراقبتهم في أخلاقهم، وفي لباسهم، وفي مخالطتهم.
5- من واجبه: أن يُوجِّهَ أولاده إلى الرُّفقَة الصّالحة فإنّ " الطّبع لصّ "، و(( المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ ))، فينهَى الولدَ عن مخالطة المنحرفين، والمدخّنين، والمهمِلين، وغيرِِ الجادّين.
6- ومن واجب الآباء: تحذيرُ أولادِهم ذكوراً وإناثا من تضييعِ الصّلاة بحجّة الدّراسة؛ لأنّ الصّلاة أهمّ، وإنّهم يأثمون لإخراجها عن وقتها، وقد قال تعالى:{إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103].
7- ومن واجبهم: مراقبةُ الموادِّ الّتي يدرسُها الأولادُ في المدرسة، وإنّه يجب منعُهم من دراسة الموسيقى؛ لأنّها حرام.
ولا بدّ من منع البنات من ممارسة الرّياضة - خاصّة بعد البلوغ - ولو أدّى ذلك إلى تركِها الدّراسةَ، وإنّ ذلك من مُقتضَيات الرّجولة، والغيرةِ على العِرض والشّرف. ومن لم يفعل ذلك فإنّه يُعتبَر قد خان الأمانة، والله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
والمربِّي مستأمَنٌ على عقيدة ولده، وعلى أخلاقه قبل أيّ شيء آخر.
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ )) [متّفق عليه].
وسبحانك اللّهم وبحمدك، أشهد أن لا إلا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.