كانوا في شغل شاغل، ينسجون خيوط المؤامرة ..
كلّ شيء تغيّر .. دار النّدوة تحوّلت إلى بركان ثائر .. والمشركون تحوّلوا إلى حِممٍ من الغضب ..
الجميع يريد رأسَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأيّ ثمن .. فقد أيقنوا أنّه لا محالة لاحِقٌ بأصحابه رضي الله عنهم بمدينة الإسلام .. مستقبل رهيب يحيط بهم من كلّ جانب ..
صحيح أنّهم أصيبوا بفاجعة ما بعدها فاجعة وهم يرون عقائِدَ الآباء تذروها الرّياح .. ولكن لم يكن يُحزنهم انتشار دعوتِه بقدر ما كان يُحزنهم حديث العرب قاطبةً: أنّ فتيان قريش يقودون شيوخها !.. فقراء قريش غلبوا أغنياءها !.. ضعفاء قريش هزموا أقوياءها، وداسوا كبرياءها !..
فاجتمعوا في يوم سمّوه ( يوم الزّحمة ) الّذي يُحدّثنا عنه ابن عبّاس رضي الله عنهما ..
أدركه وهو في صباه .. فقد كان هو وأمّه لبابة بنت الحارث رضي الله عنها من {الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} ..
روى ابن إسحاق، ومن طريقه الطّبريّ (2/370) من عدّة طرق عنه رضي الله عنه قال:
" لمّا أجمعوا لذلك، واتّعدوا أن يدخلوا في دار النّدوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، غَدَوْا في اليوم الّذي اتّعدوا له، وكان ذلك اليوم يُسَمّى يومَ ( الزّحمة ).
فاعترضهم إبليسُ في هيئة شيخ جليل، عليه بتّ[1]، فوقف على باب الدّار، فلمّا رأوه واقفا على بابها، قالوا:
من الشّيخ ؟
قال: شيخ من أهل نجدٍ، سمع بالّذي اتَّعدْتُم له، فحضر معكم لِيَسمعَ ما تقولون، وعسى أن لا يَعدِمَكم منه رأياً ونصحاً.
قالوا: أجل، فادخل.
فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلّهم من كلّ قبيلة.
من بني عبد شمس: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب.
ومن بني نوفل بن عبد مناف: طُعَيْمة بنُ عديّ، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.
ومن بني عبد الدّار بن قصيّ: النّضر بن الحارث بن كلدة.
ومن بني أسد بن عبد العزّى: أبو البختري بن هشام، وزَمعة بن الأسود بن المطّلب، وحكيم بن حزام.
ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام.
ومن بني سهم: نَبِيه ومنبه ابنا الحجّاج.
ومن بني جمح: أميّة بن خلف. ومن كان معهم وغيرُهم ممّن لا يعدّ من قريش، فقال بعضهم لبعض:
إنّ هذا الرّجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنّا – والله - ما نأْمَنُه على الوثوب علينا فيمن قد اتّبعه من غيرنا، فأجمِعوا فيه رأيا.
فتشاوروا. ثمّ قال قائل منهم:
احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثمّ تربّصوا به ما أصاب أشباهَه من الشّعراء الّذين كانوا قبله: زهيرا، والنّابغة، ومن مضى منهم من هذا الموت، حتّى يصيبه ما أصابهم !
فقال الشّيخ النّجدي: لا – والله - ما هذا لكم برأي، والله لئن حبسْتُموه كما تقولون ليخرُجَنّ أمرُه من وراء الباب الّذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يَثِبُوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثمّ يُكاثروكم به حتّى يغلبوكم على أمركم ! ما هذا لكم برأي .. فانظروا في غيره.
فتشاوروا، ثمّ قال قائل منهم:
نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنّا فوالله ما نبالي أين ذهب ؟ ولا حيث وقع إذا غاب عنّا، وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وأُلْفَتَنا كما كانت.
فقال الشّيخ النّجدي: - لا والله - ما هذا لكم برأي، ألم تَرَوْا حُسنَ حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرّجال بما يأتي به ؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمِنْتُم أن يَحُلّ على حيّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه، حتّى يتابعوه عليه، ثمّ يسير بهم إليكم حتّى يطأَكُم بهم في بلادكم، فيأخذَ أمركم من أيديكم، ثمّ يفعل بكم ما أراد ! دبّروا فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إنّ لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعدُ.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟
قال: أرى أن نأخذ من كلّ قبيلةٍ فتًى شابّا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثمّ نعطِي كلَّ فتى منهم سيفا صارما، ثمّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه، فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منّا بالعقل[2]، فعقلناه لهم.
فقال الشّيخ النّجدي: القول ما قال الرّجل، هذا الرّأي الّذي لا رأي غيره.
فتفرّق القوم على ذلك وهم مجمعون له ".
هذا ما أجمعوا عليه، ولن يتراجعوا عنه أبدا ..
هذا ما أسفر عنه يوم الزّحمة ..
والله من فوق سماوات يرقب أقوالَهم، ويرى أفعالَهم .. وهو القائل جلّ جلاله:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]..
ليثبتوك: أي ليسجنوك .. أو يقتلوك أو يُخرجوك .. سنّة الأعداء في كلّ زمان ومكان .. تشابهت قلوبهم ..
وما أشبه هذا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوم كُبِّل بالحديد، وأغلق عليه السجّان الباب داخل غرفة ضيّقة مظلمة، فتلا رحمه الله قوله تعالى:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: من الآية13].
والتفت إلى الّذين هم خارج السّجن، فأرسل إليهم برسالة، وأنشد لهم نشيد الخلود: ما يصنع أعدائي بـي ؟ أنا جنّتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي .. أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة !!.
ذلكم كان موقف المشركين يوم الزّحمة .. فما خبر نبيّ الرّحمة صلّى الله عليه وسلّم ؟
هذا ما سوف نراه لاحقا إن شاء الله تعالى.