عزاؤه في التّكذيب ما لقيه إخوانه الأنبياء والمرسلون عليهم السّلام من قبل:{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184]..
وعزاؤه في التّعذيب ما ما قاله ربّه سبحانه:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]..
وكان أجمل عزاء قول الله تبارك وتعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]..
ففي هذه الآية أعظم تسليةٍ لقلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ففيها رسالتان اثنتان:
الأولى: أنّه لا ينبغي أن تحزن، ولا تظنّ أنّك ما أدّيت الّذي عليك، فقد أدّيت الّذي عليك على أحسن وجه .. وإنّما هم في الحقيقة لا يكذبونك بقلوبهم، ولكنّهم يجحدون بألسنتهم.
الثّانية: كأنّ الله يقول له: لا تحزن ممّا يقولون، فإنّ التّكذيب في الحقيقة إنّما هو لي، وأنا الحليم الصّبور، فاتّصف بما اتّصفت به.
ولم يكن حرصُهُ صلّى الله عليه وسلّم مجرّد نزوة، أو شهوة، ولكن كان رحمة ورأفة:
فهو صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنّه لو استجاب لدعائهم بالعذاب، وطلبهم الآيات، لعجّل الله لهم العذاب:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (93)} [الإسراء]..
فقد بلغ بهم الكفر إلى حدّ أنّ الله لو أنزل عليهم الآيات ثمّ لم يؤمنوا بها لكانوا قد حكموا على أنفسهم بالعذاب !
روى الإمام أحمد عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ ؟ قَالَ: (( وَتَفْعَلُونَ ؟ )) قَالُوا: نَعَمْ.
فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ. قَالَ: (( بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ )).
فالله تبارك وتعالى لو جمعهم على الهدى لسلب منهم الحرّية والإرادة كما سلبها من سائر المخلوقات، لكنّه تعالى فضّلهم وكرّمهم بهذه الإرادة، فهم يختارون طريقهم، ويُحاسبون عليها:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35].
مجاعة في مكّة.
حالة واحدة تخضع فيها قريش للحقّ .. هي البطش والعذاب .. قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)} [الأنعام].
روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا غَلَبُوا النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ، قَالَ: (( اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ )).
قال: فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ، أَكَلُوا فِيهَا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنْ الْجَهْدِ ! حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنْ الْجُوعِ.
الحاصل، أنّهم سألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو ربّه عزّ وجلّ أن يكشف عنهم العذاب.. ولكنّهم تمادوا في كفرهم وعنادهم.
نقض صحيفة المقاطعة.
اشتدّ البلاء على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعشيرته، ممّا جعل نفرا من قريش يقومون في الدّفاع عنهم، ولم يُبلِ فيها أحدٌ أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة.
كان هاشم ذا شرف في قومه، فكان يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشِّعب ليلاً قد حمّله طعاما، حتّى إذا أقبل به دخل الشِّعب عليهم.
ثمّ إنّه مشى إلى زهير بن أبي أميّة بن المغيرة، فقال:
يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطّعام وتلبس الثّياب وتنكح النّساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟! أما إنّي أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثمّ دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا ! قال: ويحك يا هشام ! فماذا أصنع ؟ إنّما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتّى أنقضَها.
قال: قد وجدت رجلا. قال: فمن هو ؟ قال: أنا. قال له زهير: أبْغِِنا رجلا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عديّ فقال له: يا مطعم ! أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟
قال: ويحك ! فماذا أصنع ؟ إنّما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال: من هو ؟ قال: أنا. فقال: أبغِنا ثالثا. قال: قد فعلت. قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبي أميّة. قال: أبغنا رابعا.
فذهب إلى البختري بن هشام، فقال له نحوا ممّا قال للمطعم بن عديّ، فقال: وهل من أحد يُعينُ على هذا ؟ قال: نعم. قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبي أميّة، والمطعم بن عديّ، وأنا معك. قال: أبغِنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطّلب، فكلّمه، وذكر له قرابَتَهم وحقّهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال: نعم. ثمّ سمّى له القومَ.
فاتّعدوا خَطْم الحَجُون ليلاً بأعلى مكّة، فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصّحيفة، حتّى ينقضوها. وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أوّل من يتكلّم.
فلمّا أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أميّة عليه حُلّة، فطاف بالبيت سبعا، ثمّ أقبل على النّاس، فقال:
يا أهل مكّة ! أنأكل الطّعام ونلبس الثّياب، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصّحيفة القاطعة الظّالمة.
فقال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد -: كذبتَ والله، ولا تشقّ.
قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب. ما رضينا كتابها حيث كتبت.
قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقرّ به.
قال المطعم بن عديّ: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها وممّا كتب فيها.
فقال أبو جهل: هذا أمر قُضِي بليل.
ورُفِع الحصار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وعن عشيرته، ليواصل دعوته بلا يأس ولا كلل، ولا شكّ أنّ ذلك الحصار قد بلغ الآفاق، واشرأبّت له الأعناق، فكان نصرا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
( وإذا أراد الله نشر فضيلة *** أتاح لها لسانَ ألف حسود )
فقد قدِم وفْدٌ من نصارى الحبشة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بمكّة.
كانوا عشرين رجلا، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه، فكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلمّا فرغوا من مسألتهم رسول الله عمّا أرادوا دعاهم رسول الله إلى الله وتلا عليهم القرآن، فلمّا سمعوا فاضت أعينهم من الدّمع ثمّ استجابوا له، وآمنوا به، وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلمّا قاموا من عنده، اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا: خيّبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرّجل، فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتّى فارقتم دينكم، وصدّقتموه بما قال لكم ؟! ما نعلم ركبا أحمق منكم !
فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
العبرة:
هذه الأحداث تُعِيد الأمل للمسلمين في كلّ زمان ومكان، أنّه مهما بلغ أهل الكفر من التّضييق والحصار للدّعوة، فإنّ الله عزّ وجلّ سيجعل لهم من وراء ذلك مخرجا، ويهيّئ لهم من أمرهم فرجا.
وإنّما المطلوب من المسلمين: التحلّي بالصّبر والثّبات، وتقوى الله عزّ وجلّ بامتثال أمره:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: من 120].
وقال عزّ وجلّ:{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطّلاق].
( من حيث لا يحتسِب ) فلا يعلم أحدٌ بِمَ سينصر الله جندَه، وبمنْ سيُظهِر أمره ؟ وفي الحديث الصّحيح: (( إِنَّ اللهَ عزّ وجلّ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ )) [متّفق عليه].
وهذا النّصر لا بدّ أن يصحبه بلاء، فقد ابتُلِي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أحبّ النّاس إليه: خديجة رضي الله عنها، وأشدّ النّاس حماية له: عمّه أبو طالب.
وهذا ما سوف نراه لاحقا إن شاء الله تعالى.